‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلاميات. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات اسلاميات. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 26 يناير 2014

الطواف بالقبور ...رجوع إلى الجاهلية الأولى



استفحلت ظاهرة تقديس القبور والتبرك بها في أوساط الأمة حتى تقرب إليها البعض بأنواع القربات، وتوجهوا إليها بصنوف العبادات، وجنح الغلو ببعضهم إلى حد تفضيل بعض مشاهد القبور على مناسك الحج والعمرة، واعتقدوا أن قصدها بالزيارة أفضل من قصد البيت الحرام، ففي صعيد مصر مثلاً يرى شطر من العامة هناك أن الطواف سبع مرات بقبر "الشيخ القناوي" ب"قنا" فيه غناء عن أداء الحج إلى بيت الله الحرام، وقال بعض المؤلفين مؤرخاً: " جاء الحُجاج هذه السنة لسيدي أحمد البدوي من الشام وحلب ومكة أكثر من حجاج الحرمين !".

هذا على الرغم من حرصِ النبي - صلى الله عليه وسلم - على بيان الشرك والتحذير منه، وسدِّ الطرق الموصلة إليه، فحرّم التماثيل، واتخاذ القبور مساجد، لئلا تتخذ ذريعة لعبادتها من دون الله، وبيَّن أن الميت قد أفضى إلى ما قدّم، وأنه في دار الحساب والجزاء على ما عمل، وهو محتاج إلى دعاء الحي واستغفاره .

هذا ما حددته النصوص من أطر العلاقة بين الأحياء والأموات، أما القبوريون فقد عكسوا هذه العلاقة حين راحوا يلتمسون النفع من الأموات، ويعتقدون فيهم اعتقادات باطلة، ويمارسون حول قبورهم ممارسات تدل على مبلغ غلوهم وجهلهم بدين الله عز وجل، من تلك الممارسات الطواف حول القبور الذي هو محور حديثنا .
وقبل ذلك يجدر بنا أن نشير إلى هدي الإسلام في زيارة القبور حتى يتضح للمسلم مدى البون الشاسع بين الهدي الإسلامي الصحيح وبين ما يمارسه هؤلاء عند زيارتهم لقبور أولياءهم .


هدي الإسلام في زيارة القبور

لا خلاف بين الفقهاء في استحباب زيارة الرجال للقبور, لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة ) رواه أحمد ، والسنة في الزيارة أن يأتي الرجل إلى مقابر المسلمين ويسلم عليهم، ويدعوا لهم، كما كان - صلى الله عليه وسلم - يفعل عندما يأتي قبور "البقيع" حيث يقول مخاطباً أهل القبور: ( السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا - إن شاء الله - بكم للاحقون ) رواه مسلم .





ويقف مستقبل القبلة حال دعائه . أما وضع اليد على القبر فليس بسنة ولا مستحب, وقد أنكره العلماء، قال ابن تيمية : "اتفق السلف على أنه لا يستلم ولا يقبل إلا الحجر الأسود, والركن اليماني يستلم ولا يقبل" . وقال الإمام النووي في "المجموع": " ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة, فهو من جهالته وغفلته, لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع، وكيف يبتغى الفضل في مخالفة الصواب ".

حكم الطواف حول القبور
يختلف حكم الطواف بالقبور تبعا لنية وقصد فاعله؛ فإن كان الطائف معتقداً أن الطواف بالقبور عملٌ يقرِّبه إلى الله سبحانه وتعالى، ويُتَعَبْدُ الله عز وجل به، فهذا قد ضلَّ الطريق من حيث أنه عَبَدَ الله بما لم يشرعه، ففعله هذا يدخل في نطاق البدعة، وعمله مردود عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) متفق عليه .

وإن كان الطائف إنما يَتَقَرَبُ بطوافه إلى صاحب القبر رغبةًً في عطائه، أو رهبة من عقابه، أو محبة فيه، فهذا هو الشرك الذي أنزلت الكتب وأرسلت الرسل للنهي عنه والتحذير منه؛ إذ لا تصح العبادة إلا لله عز وجل؛ ولا يجوز أن يُتَقَرَبَ إلى مخلوق مهما علا شأنه وعظم قدره بعبادة من العبادات أو بقربة من القربات، لأن ذلك من الشرك المنهي عنه، قال تعالى : { قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين }(الأنعام:162- 163)، فالعبادة كلها لله، ولا يجوز التقرب بأي نوع من أنواع العبادات لغير الله، سواء كان المتقرَّبُ إليه ملكاً مقرباً، أو نبياً مرسلاً، أو عبدا صالحاً.

قال الإمام النووي في "المجموع": " لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم، ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر.. ويكره مسحه باليد وتقبيله, بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد منه لو حضره في حياته - صلى الله عليه وسلم -. هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه, ولا يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك, فإن الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة وأقوال العلماء, ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم "أ.هـ وفي كلام النووي في عدم جواز الطواف بقبره - صلى الله عليه وسلم - دليل على عدم جواز الطواف بقبر غيره من باب أولى؛ لكون قبره - صلى الله عليه وسلم - أعظم القبور وأشرفها .

وأوضح الشيخ ابن باز - رحمه الله - أن من : " طاف بالقبور بقصد عبادة الله، كما يطوف بالكعبة يظن أنه يجوز الطواف بالقبور ولم يقصد التقرب بذلك لأصحابها، وإنما قصد التقرب إلى الله وحده، فهذا يعتبر مبتدعاً لا كافراً؛ لأن الطواف بالقبور بدعة منكرة " .

هذا هو حكم الشرع في " الطواف بالقبور" وهو حكم دائر بين الكفر والبدعة المنكرة بحسب نية فاعله، وهو مزلق خطير ربما دفع البعض إلى ارتكابه جهله أو تقليده، فينبغي للمسلم أن يكون عنده من الفقه ما يجنبه مثل هذه المزالق التي تذهب دينه وتفسد فطرته، فأصحاب هذه القبور لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعاً فضلاً عمن يستغيث بهم أو يطوف بقبورهم، وكل من العقل والشرع قد دلاَّ على استقباح هذه البدع والتنفير منها، فما أغنت عن حي، ولا خففت عن ميت . فالواجب على المسلم أن يجتنب هذا الأمر كل الاجتناب، وأن يتقرب إلى الله وحده سبحانه، فهو النافع سبحانه في الدنيا والآخرة وفي ظلمات القبور وأهوالها .

في ظلال آية ( إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا )



روى مالك في "موطئه" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (تركت فيكم أمرين، لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله، وسنة نبيه)، فكتاب الله هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، وهو النور المبين.



لقد نزل هذا القرآن ليكون منهج حياة، ودستور أمة، ونموذجاً واقعياً للتطبيق العملي، تنمو الحياة في ظله وتترقى، لا ليقبع في الزاوية الضيقة من الحياة، كما تقبع الأبحاث النظرية في زوايا الجامعات ومراكز الأبحاث.

نزل هذا القرآن، ليميز الأمة المستخلَفة في الأرض، الشاهدة على الناس، المكلفة بأن تقود البشرية كلها إلى خالقها وبارئها. فكان تحقيق هذا المنهج في حياة الأمة المسلمة هو الذي يمنحها ذلك التميز في الشخصية والكيان، وفي الأهداف والتوجهات. وهو - كذلك - الذي يمنحها مكان القيادة الذي خُلقت له، وأُخرجت للناس من أجله. وهي بغير هذا القرآن ضائعة تائهة، مبهمة الملامح، مجهولة السمات، مهما اتخذت لها من زخارف الحياة ومباهجها!

نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليبني عقيدة التوحيد في قلوب الأمة، وليخوض بهذه العقيدة معركة الحق والباطل، والهدى والضلال.

ولقد حقق القرآن بمنهجه الرباني خوارق في تكييف نفوس الصحابة رضي الله عنهم، الذين تلقوه مرتلاً متتابعًا، وتأثروا به يومًا يومًا، وانطبعوا به، وعملوا به في كل شؤون حياتهم.

أما اليوم فقد هجر المسلمون هذا القرآن، واتخذوه كتاب متعة للثقافة، وكتاب تعبد للتلاوة فحسب، لا منهج تربية وسلوك، ودستور حياة للعمل والتطيبق؛ وقد جاء ليقودهم إلى الطريق الأقوم والأرشد؛ هجروه فلم ينتفعوا من القرآن كما ينبغي؛ لأنهم خرجوا عن منهجه الذي رسمه العليم الخبير؛ فالقرآن إنما نزل للعمل أولاً، ولتحكيمه في شؤون الحياة كافة، فهذا هو المقصد الأساس من نزوله، وهذا هو المبتغى من تكفُّل الله بحفظه.

وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره، بل هو أعظم أنواع الهجر، الذي حذرنا الله منه وذم فاعله، قال تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} (الفرقان:30)؛ ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام، والآداب والمكارم، ولم يعتقد بما فيه من العقائد والأحكام، ولم يعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.

وقد ترتب على هجر المسلمين للقرآن تبعات عديدة ونتائج خطيرة، على المستويات كافة:

فعلى مستوى الأفراد، أصبح سلوك كثير من المسلمين، لا يمت إلى أخلاق القرآن بصلة، بدءًا بترك تحية الإسلام إفشاءً وردًا، ومرورًا بالتحاسد والتنابذ بالألقاب والسخرية من بعضهم البعض، وانتهاء بالتعامل بأنواع الحرام، من رباً وزنى، وأكل لأموال الناس بالباطل، ونحو ذلك من المحرمات التي نهى الله عنها في كتابه الكريم.

وكان من تبعات هجر القرآن على مستوى الأفراد أيضًا، هجر لغة القرآن والزهد فيها، والرغبة عنها، والأخذ بلغة أولئك القوم؛ لأنها لغة العصر والمعاصرة، وسبيل التطور، ومظهر من مظاهر الرقي والحضارة!! فأنت ترى أحدهم يتفاخر ويتباهى أنه يرطن بلغة الأعاجم، ولم يعد يعتمد العربية في كلامه، بل ربما يخجل أن يتكلم بها؛ لأنها - بحسب زعمه - لغة ميتة لا حياة فيها، ولأنها لا تناسب تطورات العصر ونهضته!

ثم إن هؤلاء الأفراد - فوق ذلك - قد جعلوا من أهل الغرب قدوتهم، ومن سلوك أولئك القوم وجهتم؛ فهم يقلدونهم في الصغيرة والكبيرة من الرذائل، وفي القبيح والمذموم من العادات والصَّرْعات؛ فإن أطالوا شعورهم، كان على هؤلاء أن يفعلوا الشيء نفسه، وإن كشف أولئك القوم عوراتهم وأظهروا سوآتهم! وقس على ذلك أنواع السلوك الأخرى، من الاختلاط بين الجنسين، والزواج بين المثلين، والعلاقات المحرمة والشاذة التي يأباها وينفر منها وعنها، كل من بقي على فطرته السليمة.

وكان من تبعات هجر القرآن على مستوى المؤسسات التعليمية، ما تقوم به المؤسسات التعليمية اليوم في بعض دولنا الإسلامية من إعادة النظر في المناهج الشرعية، ومن ثم صياغتها وتعديلها وفق المقياس الغربي.

وقد وصل الأمر أن يُفرض على المسلمين تغيير مناهجهم التربوية والتعليمية، بما يوافق ويتفق مع توجهات وسياسات وأطماع الدول الكبرى، وكل هذا من تبعات هجر القرآن، وتسليم الأمة قيادها لغير شريعة القرآن.

أما على المستوى الاجتماعي والأسري، فحدث ولا حرج، حيث أخذت الدعوات من هنا وهناك تنطلق بأعلى صوتها، مطالبة إلى تحرير المرآة وفك أسرها، وداعية - بما أوتيت من قوة وزخم ودعم إلى استرداد حقوق المرأة التي اغتصبها منها الرجل والمجتمع في آن معًا! فكان من تبعات هجر القرآن على هذا المستوى، خروج المرأة من بيتها تزاحم الرجل، وتقاسمه مجالات العمل، بعد أن تركت عملها الأساس؛ وما تبع ذلك من اختلاط في مرافق الحياة كافة، بدءًا بالأُسر المسلمة، ومرورًا بالشوارع والنوادي الرياضية، وانتهاء بالجامعات ومراكز العلم، وكل هذا جرى بدعاوى التحرر والتقدم.

أما على مستوى الدول والحكومات فالأمر أدهى وأمرُّ، والخَطْب أعظم وأجلُّ، فقد أصبح القرآن - ممثلاً بشريعة الإسلام - مصدرًا من مصادر التشريع لأكثر دول الإسلام، ولم يعد هو المصدر الوحيد لتشريعاتها وقوانينها، بل أصبح مصدرًا رديفًا ومساويًا لمصادر الغرب والشرق!!

وحتى هذه المشاركة (الخجولة) للقرآن في معظم دساتير دول الإسلام، قد انحصرت شيئًا فشيئًا إلى أن أصبح مجالها في زاوية ضيقة من زوايا الحياة، هي زاوية قوانين الأحوال الشخصية. ولم يُكتف بهذا فحسب، بل أصبحت قوانين الأحوال الشخصية في كثير من دول الإسلام، تكيف وتعدل بحسب ما تقتضيه طبيعة العصر وحاجته؛ كمنع تعدد الزوجات، أو وضع شروط لهذا التعدد.

وهكذا، فقد كان من أكبر تبعات هجر القرآن، ترك شرائع الأرض تحكم وتتحكم بشريعة السماء، وترك أهل الأهواء والشهوات يسيِّرون أمر من كان يُفترض منهم أن يكونوا شهداء على الناس.

هذه بعض من كل من تبعات هجر القرآن؛ وقد آن الأوان لهذه الأمة - أفرادًا ومؤسسات - أن تعود إلى قرآنها بعد تلك القطيعة التي طال بها الزمن، والتي حذر منها سيد البشر؛ وأن تعود إلى رشدها، بعد ذلك الفصام النكد بينها وبين قرآنها، وجعل منها أمة لا وزن لها بين الأمم.

ولا شك، أن المخرج من هذه التبعات معروف للجميع، للعالم والجاهل، والصغير والكبير، وهو العودة إلى كتاب الله، وهذا كلام سهل ويسير، والأهم والأجدر قبل هذا وبعده هو العمل والتطبيق، والانتقال من حيز القول إلى حيز الفعل، فهل إلى مرد من سبيل ؟ ويبقى الأمل بشرط العمل.

الأربعاء، 22 يناير 2014

الأب المثقف والابن العصري



تكاد تجمع كل المدارس التربوية المعنية بتربية الطفل على أهمية «القدوة» في حياة البرعم الصغير، خاصة الوالدان اللذان يمثلان الواجهة النموذجية لسلوكيات الطفل، والمنبع الصافي الذي يكتسب منه القيم والتقاليد والأعراف الرصينة والعريقة، فعين الطفل دوما تبحث عن النموذج في الوالد والجد والمعلم ... وغيرهما من الرموز المؤثرة في حياته، تستقي منهم المعايير التي تكون شخصيته الآنية والمستقبلية.

فالقدوة بالنسبة للطفل مصدر لمعرفة الصواب من الخطأ، وما هو مسموح به وما هو غير مسموح، والجائز واللائق والعيب، والحلال والحرام .. في منظومة سلوكية متشابكة - بل ومعقدة أحيانا - يكتسب الطفل كافة مفرداتها عن طريق التفاعل السلوكي اليومي، ووسط توجيهات القدوات في حياته تكتمل ملامح هذه المنظومة في شخصيته يوما بعد يوما، حتى تكون إنسانا سويا يواجه معترك الحياة بخطى ثابتة ونفسية مستقرة.

وكما هو العهد بصفات القدوة من النموذجية والمثالية قدر المستطاع، تنطبق هذه الشروط تماما على القدوة التربوية، فالأب -مثلا- الذي يمثل قمة الهرم في مسألة القدوة للابن لابد أن يتحلى بسعة الأفق، والالتزام الصارم بالتعاليم والتوجيهات التي يصدرها، لأن مدار النجاح في العملية التربوية قائم على مبدأ «أفعل كما تراني أفعل»، وعار على المرء أن يخالف قوله فعله، فهذا من شأنه أن يسقطه من نظر الغير، فما بالنا بالطفل البريء الذي يوقعه التناقض بين الأقوال والأفعال في متاهة نفسية لا يخرج منها سالما أبدا.

ولا يفوتنا أن ننوه إلى أن احتراف الأب للغة الأوامر الخالية من التطبيق في خاصة نفسه من شأنه أن يقلب البيت إلى ثكنة عسكرية تكون لغة التواصل فيها قائمة على الأوامر الصارمة والتنفيذ دون أدنى مناقشة أو اقتناع، مما يعلي قيمة الكلام على قيمة الفعل، ويجعل من الطفل لصا من نوع خفي ينضبط أمام الجميع ويتفلت في أقرب فرصة يغيب فيها عن الأنظار، وهذا من شأنه أن يخلق طفلا مكدسا بالمشاكل السلوكية التي لا حصر لها، مثل: الهروب من المدرسة، والكذب، والسرقة، والعدوانية .. والكثير مما يطول ذكره.
ومن مقتضيات القدوة أن تتحلى بسعة الثقافة والمعرفة، هذا لأن العلم في نفسه قيمة تعلى من شأن الفرد، وتوسع مداركه وأفقه وتقوم سلوكه، مما يجعله يتعامل مع المواقف بإيجابية منقطعة النظير، ولذلك اهتمت الشريعة الإسلامية بالعلم اهتماما بالغا، والنصوص القرآنية والنبوية متكاثرة إلى حد لا يجهلها مسلم، فالعلم أساس المجد الذاتي والأممي، وكفى بالنفس طربا أن تنسب للعلم، وكفاها غما أن تلتصق بالجهل.
إذا فالقدوة التربوية في أمس الحاجة للمعرفة بنفسيات الطفل ورغباته وفنون التعامل معه، إضافة إلى أن أهم حاجات الطفل من القدوة التي يلجأ إليها هي «المعرفة» .. تلك المعرفة الشمولية التي تجيبه عن كل الأسئلة التي تجول بخاطره، وما أكثرها تلك التفصيلات التي يحتاج الطفل إلى فهمها في رحلة استكشافه للبيئة من حوله، حتى أن الأمر قد يتطرق إلى أسئلة محرجة تحتاج لمهارة عالية في الإجابة عنها.

وكم هو شاق على الطفل ومؤلم لنفسيته أن لا يجد الإجابات التي يبحث عنها خاصة عند من يحب، في نفس الوقت فإنه نتيجة للسطحية الثقافية لبعض القائمين على المهمة التربوية يضطرون إلى نهر الطفل عندما يعييهم الجواب، ولا يجدون مخرجا من شباك الأسئلة التي يطلقها البرعم البريء، وهذا الزجر والردود القاسية تزيد الطين بلة، وتترك في داخلة الطفل جروحا نفسية من الصعب أن تندمل، وربما قضت بالكلية على ملكة التفكير والإقدام لديه، ورغبته النقية في البحث والاستكشاف لكل ما هو حوله، فنخرج للمجتمع «الطفل الآلة» الذي لا يسير إلا بمنظومة من الأوامر، ويعيش سليب الشخصية مفتقر دوما إلى من يعوله في قراراته وسلوكياته، وينظم له كل تحركاته وتصرفاته.

وتتأكد الحاجة إلى «القدوة المثقف» في عصرنا الحديث الذي شملت التقنية فيه كل شيء من حولنا، وفي نفس الوقت تطورت معارف الطفل ومداركه نتيجة احتكاكه المباشر من الجوال والكمبيوتر والإنترنت وألعاب الفيديو جيم، وهذا بدوره يتطلب قدوة ملمة بتقنيات وروح العصر حتى لا يحس الطفل بضآلة القدوات في حياته الذين يدهم ينظرون أمامه إلى هذه التقنيات وكأنها ضربا من الأساطير في حين أن الطفل يتعامل معها ببراعة، مما يعني تبدل الأدوار، فيصبح الصغير متقدما والكبير متأخرا، وهذا من شأنه أن يخلف تشوش وبلبلة في العملية التربوية.
هذه المعضلة تظهر بجلاء في الطفل المراهق، الذي ينظر للكبار من حوله وكأنهم من جيل عتيق وهو من جيل عصري، ولذلك فهم - من وجه نظره - لا يفهمونه، ولا يتجاوبون مع دوافعه العصرية، ويريدون أن يربوه على النمط القديم العتيق الذي تربوا عليه.. وغيرها من المبررات التي يختلقها المراهق في محاولة لاستساغة تمرده على أوامر الكبار، وشروده عن قافلة الأسرة أو المدرسة.
وتصوروا معي لو اصطدم المراهق العصري بأب يجهل تقنيات الحاسوب أو الإنترنت أو التعامل مع جوال متطور أو كمبيوتر لوحي، في حين أن هذا الشبل الصغير تكاد أنامله تلتهم هذه التقنيات بحثا وإبداعا، والأب المسكين يجلس بجواره مشدوها وهو يرى ابنه يتعامل مع هذه الآلات وكأنه ساحر بارع، بل يصل حد الإبهار أن يشيد به في المحافل وينوه في المنتديات العائلية ببراعته في التعامل مع هذه الأجهزة الحديثة، رغم أن الطفل لا يتقن هذه المهارات بشكل يفوق أقرانه، فالمشكلة ليست مشكلة مهارة الطفل ولكنها مشكلة جهل الأب أو الأم أو المعلم.
هنا تتعقد الأزمة بين المراهق والقدوة الجاهل، وتترسخ عنده تلك القناعة الخاطئة بأنه من جيل والكبار من جيل آخر لا يستوعب شباب العصر، وهنا يلجأ الحدث الصغير في رحلة البحث عن حل لمشكلاته لصديقه الذي هو في نفس الوقت أضعف خبرة وأقل تجربة، وعندها يصير المراهق كالمستجير من الرمضاء بالنار.

إن مسألة «ثقافة» القدوة التربوية تضيف إلى دوره جمالا وبهاء وهيبة، وهي خير معين للطفل لكي توجهه إلى الاستفادة من جنة التقنيات العصرية وتجنبه نارها وويلاتها، فما أجمل أن يستفيد الشاب من توجيهات الأب أو المعلم الحصيف في قطف ثمار المواقع الالكترونية الهادفة أو مقاطع البلوتوث البنائة أو تعلم المهارات الالكترونية الخلاقة التي تصقل موهبة تلك البراعم الإبداعية والفكرية.
لكن أن نرى أنفسنا كقدوات جاهلين وعاجزين في أعين صغارنا فهذا عين الغبن، وسحب للبساط من تحت أقدامنا، حتى ولو كان هذا بصورة جزئية إلا أنها خطيرة وغير مقبولة، خاصة وأن تعلم تلك المهارات العصرية من السهولة بمكان، وكما ذكرنا آنفا، أن الأب المثقف هو حصن أمان لأولاده من ويلات تلك التقنيات، وخير هادي لهم للاقتباس من كنوزها ونورها.

قبس من حياة النبي قبل البعثة



نشأ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتيماً، فقد مات أبوه عبد الله وأمه حامل به لشهرين فحسب، ولما أصبح له من العمر ست سنوات ماتت أمه آمنة، وكفله بعد ذلك عمه أبو طالب حتى نشأ واشتد ساعده، وإلى يتمه أشار القرآن الكريم بقوله: { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى }(الضحى:6)، وأمضى رسول الله ـ صلى الله عليه ـ وسلم السنوات الأربع الأولى من طفولته في الصحراء في بني سعد، فنشأ قوي البنية، فصيح اللسان، ومع صِغر سنه كان يعرف بالنجابة، فكان جده عبد المطلب يقول: " دعوا بني، فوالله إن له لشأنا " .

وكانت حياته وصفاته قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - تؤكد نبوته وصدق ما جاء به، فقد عُرِفَ بأنه أحسن قومه خلقا، وأفضل شهادة له ـ صلى الله عليه وسلم ـ بحسن خلقه قبل النبوة قول خديجة ـ رضي الله عنها ـ بعد أن جاءه الوحي في غار حراء وعاد مرتعداً، فقالت له: (كلا والله ما يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَل، وتكَسب المعدوم، وتَقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ) رواه البخاري .
وقال ابن هشام في السيرة النبوية: " فشب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والله تعالى يكلؤه ويحفظه، ويحوطه من أقذار الجاهلية، لما يريد به من كرامته ورسالته، حتى بلغ أنْ كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقاً، وأكرمهم حسباً، وأحسنهم جواراً، وأعظمهم حلماً، وأصدقهم حديثاً، وأعظمهم أمانة، وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال، حتى سمي في قومه الأمين ، لِما جمع الله فيه من الأمور الصالحة " .
وقد شهد له بذلك ألد أعدائه النضر بن الحارث ـ الذي قُتِل يوم بدر كافرا ـ قال: " قد كان محمد فيكم غلاما حدثا، أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثا، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم بما جاءكم قلتم: ساحر! لا والله ما هو بساحر "، وقد قال ذلك في معرض محاولة قريش الاتفاق على ما يقولونه للعرب الذين يحضرون الموسم في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى يشوهوا صورته أمامهم فلا يؤمنون بما جاء به .
ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان ـ قبل إسلامه ـ قائلا: " هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟، قال: لا، فقال هرقل: ما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله " رواهالبخاري .

شهد الأنام بفضله حتى العدا والفضل ما شهدت به الأعداء

وقد حفظ الله نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في صغره من كل أعمال الجاهلية التي جاء الشرع الشريف بضدها، وبُغضت إليه الأوثان بغضا شديدا حتى ما كان يحضر لها احتفالا أو عيدا، وعندما تتحرك نوازع النفس لاستطلاع بعض متع الدنيا، تتدخل العناية الربانية للحيلولة بينه وبينها، ويذكر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعض مظاهر حفظ الله له ـ قبل النبوة وفي صغره ـ من نزعات الشباب ودواعيه فيقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به، إلا مرتين من الدهر، كلتيهما يعصمني الله منهما، قلت ليلة لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام أهله يرعاها: أبصر إلي غنمي حتى أسمر ( السَمَر هو الحديث ليلا ) هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان، قال: نعم، فخرجت، فجئت أدنى دار من دور مكة، سمعت غناء وضرب دفوف ومزامير، فقلت: ما هذا ؟!، فقالوا: فلان تزوج فلانة، لرجل من قريش تزوج امرأة من قريش، فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا حر الشمس فرجعت فقال: ما فعلت؟!، فأخبرته، ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك، ففعل، فخرجت، فسمعت مثل ذلك، فقيل لي مثل ما قيل لي، فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني، فما أيقظني إلا مسُّ الشمس، ثم رجعت إلى صاحبي فقال: فما فعلت ؟!، قلت : ما فعلت شيئاً، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فوالله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته ) رواه ابن حبان .

وذكر أبو نعيم في الدلائل وابن سعد في الطبقات ما قاله بحيرا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو صبي أثناء رحلته مع عمه أبي طالب: " يا غلام أسألك باللات والعزى إلا أخبرتني عما أسألك عنه " ـ وإنما قال له بحيرا ذلك لأنه سمع قومه يحلفون بهما ـ فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( لا تسألني باللات والعزى شيئاً، فوالله ما أبغضت بغضهما شيئاً قط ) .

لقد اقتضت حكمة الله ـ سبحانه ـ أن يجعل أنبياءه ورسله بشراً كغيرهم، فهم يشتركون مع سائر الناس في الصحة والمرض، والجوع والشِبع، ويقومون بالأعمال التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، لكن الله اختصهم وميزهم بأمور وصفات تتطلبها الرسالة وتقتضيها النبوة، ليكونوا على تمام الاستعداد لِتلقي وحيه، فهم معصومون من الأدناس قبل النبوة وبعدها، أمّا قبل النبوة فليتأهّلوا للأمر العظيم الذي سيوحَى به إليهم، وأمّا بعدها فليكونوا قدوة لأممهم ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ .

في ظلال آية ( اقرأ وربك الأكرم )

 في ظلال آية ( اقرأ وربك الأكرم )



الآيات الخمس الأُوَل من سورة (العلق) أول ما نزل من القرآن، في قول أكثر المفسرين، نزل بها جبريل الأمين على النبي خاتم المرسلين، عليه الصلاة وأتم التسليم، وهو قائم في غار حراء يتعبد.

ومع أن هذا النص القرآني الكريم قد صِيغَ بعبارات وجيزة، وكلمات بليغة، غير أنه تضمن من الحقائق والمعاني الكثير، وهو ما نحاول بسط القول فيه في هذه السطور:

روى البخاري في "صحيحه" عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة، فجاءه المَلَك، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم} (العلق:1-3).

وافتتاح السورة بكلمة {اقرأ} إيذان بأنه صلى الله عليه وسلم سيكون قارئًا، ومن ثَمَّ هو خطاب لأمته من بعده لتقوم بهذا الأمر الذي هو مفتاح كل خير.

ويُلْحظ في الآيات الكريمة تكرار لفظ {اقرأ} مرتين، ولهذا التكرار وظيفته في الخطاب القرآن، وهو يدل هنا على أمرين اثنين، يفيدهما السياق الذي وردت فيه الآيات:

الأول: ارتباط القراءة والأمر بها بنعمة الخلق والإيجاد؛ وهذا مستفاد من قوله سبحانه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق}.

والثاني: ارتباط القراءة بنعمة الإمداد والإكرام، وهذا مستفاد من قوله تعالى: {اقرأ وربك الأكرم}.

والمعنى وَفق هذا الارتباط المشار إليه: أن الذي خلق الإنسان يأمره بالقراءة؛ لأنها حق الخالق، إذ بها يُعرف؛ وإن ممارسة هذه القراءة هي صورة من صور الشكر للخالق، لأنها قراءة لاسمه، وباسمه، ومع اسمه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} إذ إن غاية القراءة معرفة الله تعالى، ووسيلتها النظر والتحري في آياته سبحانه المقروءة والمنشورة.

ثم إن (الواو) في قوله سبحانه: {اقرأ وربك الأكرم} أقرب ما تكون إلى معنى المعية، ذلك أن القارئ باسم الله لا يقرأ وحيدًا دون مساعدة، ومعونة ربانية، وإنما يقرأ بعين وعون من الله سبحانه {اقرأ وربك الأكرم} فهو معك يُعينك، يهديك، يصنعك {ولتصنع على عيني} (طه:39)، وكرمه سبحانه من رحمته، وهذه الرحمة تتجلى في نعمة التعليم بعد الخلق، وهكذا تتلازم صفتا العلم والرحمة منذ بداية الوحي القرآني إلى منتهاه.

وإذا كان المعنى الأصلي للقراءة الجمع، فهي إذن قراءة جامعة لكل الخير والبر والإحسان والعرف والمعروف والصدق والحق والهدى والنور والرشاد في القرآن.

ثم إن الأمر بالقراءة جاء عامًا في الموضعين من السورة الكريمة، دون تحديد لطبيعة المقروء، وقد ذهب المفسرون إلى حصر المفعول بالقرآن، على معنى: اقرأ ما أُنزل عليك من القرآن؛ وإذا صح لنا الأخذ بعموم اللفظ، جاز لنا القول: إن الأمر بالقراءة يفيد قراءة كتاب الله المسطور (القرآن) وكتاب الله المنشور (الأكوان).

واعلم أن للعلماء توجيهات وآراء في معنى الباء الواردة في قوله تعالى: {باسم ربك} نمسك عن الخوض فيها، إذ ليس المقام مقامها.

ويحسن القول هنا: إن الأمر بالقراءة ابتداء يجب اعتباره أهم وأكبر مفصل من مفاصل التاريخ البشري، ولهذا دلالته في تاريخ الأمم والشعوب، كما لا يخفاك.

وأنت خبير أن القراءة في كتاب الله المسطور، لا تنفصل في وجودها وأهميتها عن الكتابة، التي احتوتها آيات أُخر من كتاب الله المجيد، وهي قوله تعالى: {ن والقلم وما يسطرون} (القلم:1) فإذا كانت آيات سورة العلق فيها دعوة للقراءة، وحث عليها، لكشف آيات الله في الآفاق والأنفس، فإن آية سورة القلم فيها بيان وتعظيم لوسيلة القراءة وما به تكون، وكلاهما معًا طريق لمعرفة الخالق سبحانه وتعالى.

وختامًا: فإننا أمة قد نسيت أو تناست القراءة منذ زمن، وقد طال هذا النسيان، ونسيانها أو تناسيها مرض مزمن معقد حار الأطباء - على اختلاف اختصاصاتهم - في تشخيصه، فكيف في إيجاد العلاج له ؟ فهل إلى خروج من سبيل؟!

الثلاثاء، 21 يناير 2014

مجاهدة النفس



الحمد لله رب العالمين، أمر بالجهاد وجعله فريضة على جميع العباد، بحسب الاستطاعة والاستعداد، يقول تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ }(الحج:78). وهذا أمر لعموم المسلمين بالجهاد، كل عليه واجب منه حسب استطاعته، فقد أمرهم أن يجاهدوا فيه حق جهاده كما أمرهم أن يتقوه حق تقاته..

والجهاد أربع مراتب:

أولها: جهاد النفس. ثانيها: جهاد الشيطان. وثالثها: جهاد الكفار. ورابعها: جهاد المنافقين.

والأصل والأساس هو جهاد النفس. فإن العبد ما لم يجاهد نفسه أولاً فيبدأ بها ويلزمها بفعل ما أمرت به وترك ما نهيت عنه لم يمكنه جهاد عدوه الخارجي مع ترك العدو الداخلي، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ".

وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبة الحاجة: " ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ".
وقال للحصين بن عبيد: " أسلم حتى أعلمك كلمات ينفعك الله بها "، فأسلم، فقال: " قل اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي ".

فمن لم يَسلم من شر نفسه لم يصل إلى الله تعالى؛ لأنها تحول بينه وبين الوصول إليه، والناس قسمان:

قسم ظفرت به نفسه فملكته وأهلكته وصار مطيعاً لها.

وقسم ظفر بنفسه فقهرها حتى صارت مطيعة له، وقد ذكر الله القِسمين في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى }(النازعات:37-41).

فالنفس تدعو إلى الطغيان وإيثار الحياة الدنيا، والرب يأمر عبده بخوفه ونهي النفس عن الهوى، والعبد إما أن يجيب داعي النفس فيهلك، أو يجيب داعي الرب فينجو، والنفس تأمر بالشح وعدم الإنفاق في سبيل الله، والرب يدعو إلى الإنفاق في سبيله فيقول سبحانه: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }(التغابن:16).

فالنفس قد تسمح بالملايين في سبيل البذخ والإسراف، ولا تسمح بالقرش للفقير والمحتاج، تكون تارة أمّارة بالسوء، وتارة لوّامة تلوم صاحبها بعد الوقوع في السوء، وتارة مطمئنة وهي التي تسكن إلى طاعة الله ومحبته وذكره، فكونها مطمئنة وصف مدح، وكونها أمّارة بالسوء وصف ذم لها، وكونها لوامة ينقسم إلى المدح والذم.

وجهاد النفس يكون بمحاسبتها ومخالفتها. وفي الحديث: " الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " ومعنى: دان نفسه: حاسبها..

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ( حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم. وتزينوا للعرض الأكبر، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ }(الحاقة:18).

وقال ميمون بن مهران: ( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبةً من الشريك لشريكه ).
ولهذا قيل: ( النفس كالشريك الخوّان إن لم تحاسبه ذهب بمالك ).
وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: ( حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته، وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والحسرة ).

وقال الحسن: ( وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، ويعين الإنسان على محاسبة نفسه معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً إذا صار الحساب إلى غيره، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً، وأنه إذا حاسبها اليوم ربح سكنى الفردوس غداً، وإذا أهملها اليوم فخسارته بدخول النار غداً ).

فحق العاقل الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه في حركاتها، وسكناتها، وخطواتها، وخطراتها..
ويظهر التغابن بين من حاسب نفسه اليوم ومن أهملها يوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا }(آل عمران:30).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: ( جهاد النفس أربع مراتب:

أحدها: أن تجاهدها على تعلم الهدى ودين الحق الذي لا فلاح لها ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به. ومتى فاتها علمه شقيت في الدارين.

الثانية: أن تجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يضرها لم ينفعها.

الثالثة: أن تجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه. وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهدى والبينات، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يجاهدها على الصبر على مشاق الدعوة إلى الله وأذى الخلق، ويتحمل ذلك كله لله ) انتهى كلامه رحمه الله.

فإذا استكمل هذه المراتب الأربع صار من الربانيين، فإن السلف مجمعون على أن العالم لا يستحق أن يسمى ربانياً حتى يعرف الحق، ويعمل به ويعلمه، فمن علم وعمل وعلم فذلك يدعي عظيماً في ملكوت السموات. وفي وصية لقمان لابنه قال: ( يا بني، إن الإيمان قائد والعمل سائق والنفس حزون، فإن فتر سائقها ضلت عن الطريق، وإن فتر قائدها حزنت، فإذا اجتمعا استقامت ).

إن النفس إذا أطمعت طمعت، وإذا فوضت إليها أساءت، وإذا حملتها على أمر الله صلحت، وإذا تركت الأمر إليها فسدت، فاحذر نفسك، واتهمها على دينك، وأنزلها منزلة من لا حاجة له فيها، ولا بد له منها، وإن الحكيم يذل نفسه بالمكاره حتى تعترف بالحق، وإن الأحمق يخير نفسه في الأخلاق فما أحبت منها أحب، وما كرهت منها كره.

لا شك أن النفس تكره مشقة الطاعة، وإن كانت تعقب لذة دائمة. وتحب لذة الراحة، وإن كانت تعقب حسرة وندامة. فهي تكره قيام الليل وصيام النهار، وتكره التبكير في الذهاب إلى المسجد، فكم من شخص يجلس الساعات في المقاهي والأسواق ويبخل بالدقائق القليلة يجلسها في المسجد، تكره إنفاق المال في طاعة الله، تكره الجهاد في سبيل الله. كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }(البقرة:216).

تكره الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله، تكره القيام بالإصلاح بين الناس، وهكذا ما من طاعة إلا وللنفس منها موقف الممانع المعارض، فإن أنت أطعتها أهلكتك وخسرتها، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ }(الزمر:15).

إن أنت أطعتها فقد ظلمتها، حيث عرضتها لسخط الله وعقابه، وأهنتها وأنت تظن أنك قد أكرمتها حيث أعطيتها ما تشتهي وأرحتها من عناء العمل ومشقته فحرمتها من الثواب.

نسأل الله تعالى أن يقينا شر أنفسنا، وأن يصلحنا ويصلح بنا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

في ظلال اية (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل )



من الآيات المفتاحية في القرآن الكريم ما جاء في آخر سورة الكهف، وهي قوله تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف:110)، هذه الآية الكريمة بينت أن ثواب الله عز وجل لا يُنال إلا بالعمل وَفْق ما شرعه الله سبحانه، والإخلاص له تعالى. ونفصل القول في هذه الآية فيما يلي:

رُوي في سبب نزول هذه الآية أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله! إني أحب الجهاد في سبيل الله، وأحب أن يُرى موطني، ويُرى مكاني، فأنزل الله عز وجل: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}. رواه الحاكم والطبراني ، وفي رواية : (وإني أعمل العمل، وأتصدق، وأحب أن يراه الناس).

وقد وردت أحاديث وآثار توضح المراد من هذه الآية، من ذلك:

روى أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كنا نتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبيت عنده، تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل، فيبعثنا. فكثر المحتسبون وأهل النوب، فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما هذه النجوى؟ ألم أنهكم عن النجوى)، فقلنا: تبنا إلى الله، أي نبي الله، إنما كنا في ذكر المسيح، وفَرِقنا منه -أي: خفنا-، فقال: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح عندي؟)، قلنا: بلى. قال: (الشرك الخفي، أن يقوم الرجل يصلي لمكان الرجل).

وروى أحمد عن شداد بن أوس رضي الله عنه، أنه بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: شيء سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، فذكرته، فأبكاني، سمعت رسول الله يقول: (أتخوف على أمتي الشرك، والشهوة الخفية). قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال: (نعم، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً، ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً، فتعرض له شهوة من شهواته، فيترك صومه).

وروى أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، يرويه عن ربه عز وجل، أنه قال: (أنا خير الشركاء، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك).

وروى أحمد عن محمود بن لبيد رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟! قال: (الرياء، يقول الله يوم القيامة، إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء). قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.

وروى الطبري بسنده، قال: جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فسأله فقال: أنبئني عما أسألك عنه، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد، ويصوم ويبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد، فقال عبادة: ليس له شيء، إن الله عز وجل يقول: أنا خير شريك، فمن كان له معي شريك، فهو له كله، لا حاجة لي فيه.

وروى أحمد عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى مناد: من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً، فليطلب ثوابه من عند غير الله، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك).

وروى أحمد أيضاً عن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سمَّع سمَّع الله به، ومن راءى راءى الله به).

وروى البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله يوم القيامة: أنا خير شريك، من أشرك بي أحداً، فهو له كله).

وروى البزار أيضاً عن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عز وجل، يوم القيامة في صحف مختومة، فيقول الله: ألقوا هذا، واقبلوا هذا، فتقول الملائكة: يا رب، والله ما رأينا منه إلا خيراً. فيقول: إن عمله كان لغير وجهي، ولا أقبل اليوم من العمل إلا ما أريد به وجهي).

وروى أبو يعلى عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحسن الصلاة حيث يراه الناس، وأساءها حيث يخلو، فتلك استهانة استهان بها ربه، عز وجل). حسَّنه الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية".

هذه الأحاديث تبين أن أمر الرياء خطير؛ إذ إنه مناقض لحقيقة الإيمان، ومباين له غاية التباين، ومن ثم جاء التحذير منه، والوعيد لفاعله.

والآية الكريمة تفيد -كما ألمحنا بداية- إلى أن ثواب الله والفوز برضوانه لا يحصل إلا إذا توافر في عمل العبد شرطان رئيسان:

الأول: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله تعالى، وليس فيه شيء لأحد، وهذا ما دلَّ عليه قوله سبحانه: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا}، أي: ولا يجعل لهي شريكاً في عبادته إياه، وإنما يكون جاعلاً له شريكاً بعبادته، إذا راءى بعمله الذي ظاهره أنه لله، وهو مريد به غيره. روي عنسعيد بن جبير، قال: لا يشرك: لا يرائي بعبادة ربه أحداً. قال الماوردي: جميع أهل التأويل على أن معنى قوله تعالى: {ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} إنه لا يرائي بعمله أحداً.

الثاني: أن يكون العمل موافقاً لما جاء به الشرع، وهذا ما دلَّ قوله عز وجل: {فليعمل عملا صالحا}، قال السعدي: وهو الموافق لشرع الله، من واجب ومستحب. وقال الرازي: أي: من حصل له رجاء لقاء الله، فليشتغل بالعمل الصالح، ولما كان العمل الصالح قد يؤتي به لله، وقد يؤتى به للرياء والسمعة لا جرم اعتبر فيه قيدان: أن يؤتى به لله. وأن يكون مبرأ عن جهات الشرك.

فهذان الشرطان هما قِوام العمل الصالح، ولا يوصف العمل بـ (الصلاح) إلا بتوافرهما، فإذا ما جمع العبد في عمله بين الإخلاص والمتابعة، نال ثواب الله، وفاز برضونه، وأما من عدا ذلك، فإنه خاسر في دنياه وأخراه، وقد فاته القرب من مولاه، ونيل رضاه.

أخيراً نذكر بخصوص هذه الآية أمرين اثنين:

الأول: روى الطبراني عن عمرو بن قيس الكوفي، أنه سمع معاوية بن أبي سفيان، يقول: هذه آخر آية أنزلت. قال الهيثمي: رجاله ثقات. وقد عقَّب ابن كثير على هذا الأثر بقوله: هذا أثر مشكل، فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والسورة كلها مكية، ولعل معاوية أراد أنه لم ينـزل بعدها ما تنسخها، ولا يغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة، فاشتبه ذلك على بعض الرواة، فروى بالمعنى على ما فهمه.

الثاني: روى الدارمي عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش رضي الله عنه، قال: (من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد أن يقوم من الليل، قامها). قال عبدة -أحد رواة الأثر- فجربناه، فوجدناه كذلك.

في ظلال آية ( ومن لم يجعل الله له نورا...)



في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تفيد أن الهداية إنما هي توفيق من الله سبحانه لعباده، غير أن هذا لا ينافي أن يتعرض العبد لأسباب الهداية، طلباً لها، وسعياً للوصول إليها؛ لينال رضا الله في الدنيا والآخرة. كالمريض يأخذ الدواء طلباً للشفاء، مع أن الشافي في الحقيقة هو الله رب العالمين، لكنه سبحانه أقام أمر الدين -وكذلك أمر الدنيا- على أسباب لا بد للإنسان أن يعمل على تحصيلها؛ لكيلا يكون للناس على الله حجة يوم القيامة.

ومن الآيات التي تؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه بداية قوله سبحانه: {ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} (النور:40). جاءت هذه الآية في سياق بيان أعمال الذين كفروا، مشبِّهة أعمالهم بالسراب، الذي يبدو للناظر كأنه ماء، وهو في حقيقة الأمر ليس إلا سراباً خادعاً، لا يروي من عطش، ولا يغني من ظمأ. فجاءت هذه الآية تذييلاً لما سبقها؛ لتقرر حقيقة مهمة مفادها: أن الهداية من الله سبحانه، فمن لم يوفقه الله لأسبابها، فلا سبيل له إليها.

وقد ذكر المفسرون ثلاثة أقوال في المراد من هذه الآية:

الأول: أن المراد من (النور) في الآية الدين والإيمان، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: من لم يجعل الله له ديناً وإيماناً، فلا دين له. وعلى هذا يكون المعنى: من لم ينور الله قلبه بنور الإيمان، ويهده إليه، فهو في ظلمة عمياء، لا نور له، ولا يهتدي أبداً.

الثاني: أن المراد من (النور) في الآية الهداية في الدنيا، أي: من لم يهده الله في هذه الدنيا، فلا يهديه أحد، وهذا كقوله سبحانه: {ومن يهد الله فما له من مضل} (الزمر:37)، وقوله عز وجل: {ومن يضلل الله فما له من هاد} (الرعد:33). وهذا القول هو الأرجح فيما يُفهم من كلام المفسرين.

الثالث: أن المراد من (النور) الهداية في الآخرة، والمراد بحسب هذا القول: من لم يرحمه الله، وينور حاله بالعفو والرحمة، فلا رحمة له. أو من لم يجعل له نوراً يمشي به يوم القيامة، فما له من نور يهتدي به إلى الجنة. وقد أخرج ابن المنذر عن أبي أمامة ما يشهد لهذا القول، قال: أيها الناس إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منـزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات، ويوشك أن تظعنوا -ترتحلوا- منه إلى منزل آخر، وهو القبر. بيت الوحدة، وبيت الظلمة، وبيت الضيق إلا ما وسع الله، ثم تنقلون إلى مواطن يوم القيامة، وإنكم لفي بعض تلك المواطن حين يغشى الناس أمر من أمر الله، فتبيض وجوه وتسود وجوه، ثم تنتقلون إلى منزل آخر، فيغشى الناس ظلمة شديدة، ثم يقسم النور، فيُعطى المؤمن نوراً، ويُترك الكافر والمنافق، فلا يُعطى شيئاً، وهو المثل الذي ضربه الله في كتابه {أو كظلمات في بحر لجي} إلى قوله: {فما له من نور}، فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير.

والحق أن هذه الأقوال لا تعارض بينها، بل يُكَمِّل بعضها بعضاً، فإن المؤمن بدين الإسلام لابد له أن يصل إلى طريق الهداية، ومن وصل إلى طريق الهداية لا بد أن يلتزم ما أمر الله به، وما نهى عنه، ومن التزم شرع الله لا بد أن يكون من الفائزين يوم القيامة، كما قال تعالى: {وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار} (البقرة:25).

والنقطة المحورية التي تنبه إليها الآية الكريمة هي: أن الهداية إنما تكون بتوفيق من الله وتيسير منه سبحانه، والعبد مطالب أن يطرق باب أسباب الهداية كما يطلب باب أسباب الرزق، فكما أن الرزق من الله سبحانه وتعالى، وهو القائل: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} (هود:6)، إلا أن العبد مطالب -في الوقت نفسه- بأن يسعى في تحصيل الرزق، ويتعرض لأسبابه كما قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (هود:15)، فكذلك أمر الهداية، فإن العبد مطالب بتحصيل أسبابها، وسلوك الطرق المؤدية إليها؛ وذلك لا يكون إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعرف على سنن الآفاق والأنفس التي بثها سبحانه في هذا الكون، والسير على سَنَنِها.

والآية التي معنا جاء مضمونها في آية أخرى، تؤكد أن أمر الهداية إنما يكون بتوفيق الله العبد لأسبابها، وأن كل ما على العبد القيام به، إنما هو الأخذ بأسباب الهداية، تلك الآية قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم} (الحديد:28)، فهذه الآية واضحة بأن الوصول إلى الهداية لا يكون إلى بالأخذ بأسبابها -وهو وَفْق الآية- تقوى الله، وتقوى الله كلمة جامعة، تعني الالتزام بشرع الله سبحانه، فإذا كانت آية النور تهتم بإبراز جانب النتيجة = الهداية، فإن هذه الآية -آية الحديد- تهتم بإبراز جانب الأسباب = الالتزام بشرع الله، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

على أن الأمر المهم هنا، أنه ليس في آية النور حجة ومستمسك لمن يقول من الكفار: إن الله لم يُرِد لي الهداية، فهذا كلام لا وزن له في ميزان الشرع، وهو كلام من لم يفقه شرع الله؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطلب أسباب الهداية، وأمر بالسعي في تحصيلها، ألم يقل سبحانه: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} (العنكبوت:69)، فقد علق سبحانه حصول الهداية على الجهاد في سبيله، ومن معاني الجهاد في سبيله جهاد النفس في طلب الهداية، والتعرف على سبل النجاة. فالأمر في المحصلة رَبْطٌ للنتائج بأسبابها، وأسباب تؤدي إلى نتائج محددة، كل ذلك بتوفيق الله سبحانه؛ لذلك كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي بصري نوراً، وفي سمعي نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، وفوقي نوراً، وتحتي نوراً، وأمامي نوراً، وخلفي نوراً واجعل لي نوراً) متفق عليه.

الاثنين، 20 يناير 2014

الدجال وأول علامات الساعة



الدجال مأخوذ من الدَجَلِ وهو الكذب، وهو عَلَمٌ على شخص يظهر في آخر الزمان يدعي الربوبية، ويجري الله على يديه من العجائب والخوارق ما تعظم به الفتنة على البشر، ويُحدث خروجه اهتزازاً وتشكيكاً في العقائد فينقسم الناس في شأنه بين مصدق مقتنع، وتابع راغب أو راهب، وبين مكذب فار من فتنته، أو مكذب مقاوم .

وقد حذر الأنبياء أممهم منه، وتوسع النبي صلى الله عليه وسلم في بيان خطورته على عقائد الناس وأديانهم، وبيّن للأمة شأنه وفصّل في أمره فوصف شكله وخلْقَه، وبين خوارقه ووجوه دجله، وأوضح أتباعه ومريديه، وأعلم الأمة بمدة لبثه ومكثه في الأرض، وطريقة موته ومن يقتله في تفصيل دقيق شمل حياة الدجال كلها؛ نصحاً للأمة وصيانة لدينها أن يداخله تشكيك أو ريب، وسوف نستعرض جميع ذلك بشيء من التفصيل:

تحذير النبي أمته من الدجال

رغم أن الدجال سيخرج في آخر الزمان وعند اقتراب الساعة ودنو أمرها، إلا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء قبله حذروا أممهم منه، حتى بلغ من تشديد النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من فتنة الدجال أن قرنها بفتنة القبر عند الاستعاذة بالله، في دلالة على ما يدخل الناس من شره؛ وذلك أن فتنته تقع في تشكيك الناس في أصل دينهم، وفي ربهم سبحانه وتعالى فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعو : ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ) رواه البخاري .

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله - ثم ذكر الدجال – فقال: ( إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه ) متفق عليه.

وبيّن أنه أعظم وأكبر فتنة تمر على العباد منذ خلق الله آدم عليه السلام فعن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال ) رواه مسلم .





مكان وزمان الدجال

دلَّ حديث تميم الداري رضي الله عنه في "صحيح مسلم" أن الدجال موجود منذ عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وربما قبل ذلك، وأنه محبوس في جزيرة في بحر ما إلى أن يأذن الله له بالخروج عند حلول زمنه، ويكون ذلك في آخر الزمان في زمن يتسم بالفتن والحروب، ويتسم أهله بخفة الدين وقلة العلم، ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – أخبر أصحابه بأن: ( المسلمين يغزون مدينة جانب منها في البحر، وجانب منها في البر، فيفتحها الله فيغنموا، فبينما هم يقتسمون المغانم إذ جاءهم الصريخ، فقال: إن الدجال قد خرج فيتركون كل شيء ويرجعون ) رواه مسلم .





وفي حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - ما يؤكد أن خروج الدجال أحد الأحداث العظام التي تنبئ بقرب قيام الساعة ودنوها، قال – رضي الله عنه - : " اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر. فقال: ( ما تذكرون ؟ . قالوا نذكر الساعة . قال إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم ) رواهمسلم . وقد وقع الاختلاف بين العلماء في ترتيب زمن وقوع هذه العلامات إلا أن غير واحد من أهل العلم ذكر بأن الدجال هو أول هذه العلامات قال القرطبي في "التذكرة": "فإن أول الآيات ظهور الدجال" .









هذا عن زمن خروج الدجال أما مكان خروجه فقد جاءت الأحاديث بأنه يخرج من جهة المشرق من خراسان من يهودية أصبهان فعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( الدجال يخرج من أرض بالمشرق؛ يقال لها: خراسان) رواه الترمذي ، وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: ( يخرج الدجال من يهودية أصبهان، معه سبعون ألفاً من اليهود ) رواه أحمد. و"اليهودية" من جملة قرى أصبهان، وأصبهان من خراسان، وانما سميت اليهودية؛ لأنها كانت تختص بسكنى اليهود، وعندما سكنها المسلمون انفرد اليهود بقطعة منها .
صفة الدجال الخلقية

وصف النبي صلى الله عليه وسلم الدجال وصفاً خلْقياً دقيقاً فذكر علاماته المميزة، وشبهه للصحابة بمن يعرفون، حتى يكون الناس على بينة من أمره ولا يشتبه عليهم، فجاء في وصفه أنه أعور العين اليمنى، وأن عينه اليمنى ناتئة، كالعنبة الطافية على وجه الماء، فعنابن عمر رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( الدجال أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية ) البخاري ، أما عينه اليسرى فورد في المسند عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( إن الدجال ممسوح العين اليسرى عليها ظفرة مكتوب بين عينيه كافر ) والظفرة لحمة تنبت عند المآقي، وقيل: جلدة تخرج في العين من الجانب الذي يلي الأنف.



وجاء في وصف الدجال أيضاً أن: ( بين عينيه مكتوب كافر يقرأه كل مسلم ) رواه البخاري . قال الإمام النووي : " الصحيح الذي عليه المحققون أن هذه الكتابة على ظاهرها، وأنها كتابة حقيقة جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه وإبطاله، ويظهرها الله تعالى لكل مسلم كاتب وغير كاتب، ويخفيها عمن أراد شقاوته وفتنته ".





وجاء في وصفه أنه جسيم أي عظيم الجثة، أحمر البشرة - والعرب تطلق وصف الحمرة على الأبيض - كثيف الشعر أجعد، قال صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال: ( رجل جسيم أحمر، جعد الرأس.. أقرب الناس به شبها بن قطن رجل من خزاعة ) متفق عليه.





ومن صفته أيضاً أن رأسه: ( كأنه أصلة ) رواه أحمد وابن حبان ، والأصلة نوع من الحيات عظيم الرأس قصير الجسم، فشبه رسول الله رأس الدجال بها؛ لعظمه واستدارته .





وجاء في صفته أنه: ( قصير أفحج ) رواه أبو داود وأفحج من الفحج وهو تباعد ما بين الساقين أو الفخذين .





ويمكننا إجمال ما سبق من وصف الدجال بأنه رجل قصير، عظيم الجسم، عظيم الرأس، كلتا عينيه معيبة فاليمنى عوراء كأنها عنبة طافية، واليسرى عليها جلدة، وهو ذو شعر جعد كثيف، أبيض البشرة، بعيد ما بين الساقين أو الفخذين، مكتوب بين عينيه كافر .





الدجال لا يدخل مكة والمدينة

وذلك صيانة لهما وتعظيما لحرمتهما، ودلالة على صحة دين المسلمين، وإظهاراً لعجز الدجال وإبطالا لكفره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( على أنقاب المدينة – مداخلها - ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال ) متفق عليه. وفي حديث فاطمة بنت قيس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن تميم الداري - رضي الله عنه – أن الدجال قال له: ( فأخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرّمتان علي كلتاهما ) رواه مسلم .





ولا يقتصر الأمر على منع دخول الدجال فحسب بل لا يدخلها حتى رعبه، فعن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، ولها يومئذ سبعة أبواب على كل باب ملكان ) رواه البخاري .

ويخرج للدجال حين نزوله قرب المدينة رجل من مؤمنيها؛ ليبطل دعواه ويظهر دجله وكذبه، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يأتي الدجال وهو محرّم عليه أن يدخل نقاب المدينة، فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خيار الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه، فيقول: الدجال أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته هل تشكون في الأمر ؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلّط عليه ) رواه البخاري .

أما منافقو أهل المدينة وكفارها فترجف بهم المدينة فيخرجون إليه، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يجيء الدجال حتى ينزل في ناحية المدينة، ثم ترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إليه كل كافر ومنافق ) متفق عليه .





ومما يَحرُم على الدجال دخوله أيضاً المسجد الأقصى ومسجد الطور، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( لا يقرب – أي الدجال - أربعة مساجد مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد الطور، ومسجد الأقصى ) قال الهيثمي في المجمع:" رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح ".





خوارق الدجال

لا تكمن فتنة الدجال في شكله ولا في لفظه، وإنما فيما يجري على يديه من خوارق وعجائب تفتن الناس وتدفعهم إلى تصديقه واتباعه، فمن عجائبه وخوارقه أن معه ماءً وناراً يخيل للناس أن ماءه يروي، وناره تحرق، بينما الأمر في حقيقته على خلاف ذلك، فماؤه نار، وناره ماء بارد، فعن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الدجال: ( إن معه ماءً وناراً فناره ماء بارد، وماؤه نار ) رواه البخاري . وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لأنا أعلم بما مع الدجال منه، معه نهران يجريان أحدهما - رأي العين - ماء أبيض، والآخر - رأي العين - نار تأجج، فإما أَدْرَكَنَّ أحدٌ فليأت النهر الذي يراه ناراً وليغمض ثم ليطأطىء رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد ) رواه مسلم .





ومن خوارقه وعجائبه أن معه جبالاً من الخبر، وأنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، ويأمر الأرض أن تخرج كنوزها فتخرج، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: ( يسير معه جبال الخبز، وانهار الماء ) رواه أحمد . وعن النواس بن سمعان - رضي الله عنه - أن النبي ذكر من فتنة الدجال أنه: ( يأتي القوم فيدعوهم فيكذبونه ويردون عليه قوله، فينصرف عنهم فتتبعه أموالهم، ويصبحون ليس بأيديهم شيء، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيستجيبون له ويصدقونه، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم – ماشيتهم - كأطول ما كانت ذُرَاً – جمع ذروة وهي أعالي الأسنمة - وأمده خواصر، وأدره ضروعاً، ثم يأتي الخرِبة – الأرض الخربة - فيقول لها: أخرجي كنوزك – مدفونك من المعادن - فينصرف منها فيتبعه كيعاسيب النحل – أي كما يتبع النحل اليعسوب، وهو أمير النحل-، ثم يدعو رجلاً شاباً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين – قطعتين -، ثم يدعوه فيقبل يتهلل وجهه يضحك ) رواه مسلم . ولا شك أنها فتنة عظيمة يسقط في حبائلها كل من لم يتبصّر أمر الدجال وشأنه، أما من قرأ أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وآمن بها فهو أشد ثباتاً، وشأن الدجال عنده سيكون أجلى من الشمس في رابعة النهار .





مدة مكثه

من تخفيف الله على عباده أن قصّر مدة بقاء الدجال، فهو لا يبقى إلا مدة يسيرة، جاء في الحديث ( أنه يمكث في الأرض أربعين صباحاً ) قال الهيثمي في المجمع: "رواه أحمدورجاله رجال الصحيح " ، وهذه الأيام ليست سواء وإنما تختلف في مدتها، فقد سأل الصحابة النبي عن مدة لبث الدجال ؟ فقال: ( أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم . قلنا: يا رسول الله أرأيت اليوم الذي كالسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال: لا، ولكن اقدروا له . قلنا: يا رسول الله فما سرعته في الأرض ؟ قال كالغيث استدبرته الريح ) رواه مسلم . فالحديث دليل على سرعة انقضاء زمن الدجال وسرعة اضمحلال فتنته فما على المسلم إلا أن يصبر فما هو إلا وقت قصير وينقضي، وهذا من رحمة الله بعباده؛ إذ لو طالت مدة الدجال لدخل العنت والمشقة على العباد، ولاستهوى بدعوته الكثير حتى ممن ثبت في بدايتها؛ فإن لطول الزمن أثر بين في تثبيت كثير من الدعاوى الباطلة .





العصمة من الدجال

الدجال وإن عظمت به الفتنة، وزاد به البلاء، إلا أن الشارع الكريم قد بيّن أسباب دفع فتنته، والتحرز منها، فمن تلك الأسباب:

1- معرفة حاله وصفاته: فقد حرص - صلى الله عليه وسلم - على تعريف المؤمنين بصفات الدجال الخلْقية، حتى إذا ظهر لم يخف على الناس أمره، ولذلك حثّ العلماءُ على نشر أحاديث الدجال تعريفا به، وحفظاً لها كيلا تتناساها الأمة.





2- التعوذ بالله من شره وفتنته فقد كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته: ( اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المسيح الدجال... ) متفق عليه، وأمر - صلى الله عليه وسلم - بالمواظبة على هذا الدعاء بعد التشهد في الصلاة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ( إذا تشهد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع، يقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر فتنة المسيح الدجال ) رواه مسلم .





3- حفظ العشر الآيات الأولى من سورة الكهف: روى مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) قال الإمام النووي : " سبب ذلك ما في أولها من العجائب والآيات فمن تدبرها لم يفتتن بالدجال ".





4- الفرار منه والابتعاد عنه: قال - صلى الله عليه وسلم - : ( من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات ) رواه أبو داود .





5- العمل الصالح والاشتغال بالطاعة: فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( بادروا بالأعمال ستاً: طلوع الشمس من مغربها، أو الدخان، أو الدجال، أو الدابة، أو خاصة أحدكم، أو أمر العامة ) رواه مسلم .





نهاية الدجال

تكون نهاية الدجال وهلاكه على يد عيسى عليه السلام، وهذا من رحمة الله عز وجل وعظيم حكمته أن جعل نزول عيسى عليه السلام متزامناً مع خروج الدجال حتى يكون المسيح عليه السلام قدوة للمؤمنين ومثبتاً لهم، وحتى يدحض بآيات الهدى شبهات الدجال، فيسلط الله المسيحَ - عليه السلام - على الدجال فيطارده حتى يدركه ب "باب لد " جبل ببلاد الشام، فيقتله هناك، ويخلّص الناس من شره، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( ينزل عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم .. فإذا رآه عدو الله – أي الدجال - ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته ) رواه مسلم . وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ثم ينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فيدركه – أي يدرك الدجال - عند باب لد فيقتله ) رواه أبو داود .





وبعد هلاك الدجال وما يعقبه من هلاك يأجوج ومأجوج يشيع الأمن في الأرض، ويعيش الناس في رخاء من العيش، وسلامة من الفتن، فعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( الأنبياء إخوة لعلات وأمهاتهم شتى، وأنا أولى الناس بعيسى بن مريم، وإنه نازل فاعرفوه فإنه رجل ينزع إلى الحمرة والبياض كأن رأسه يقطر، وإن لم يصبه بلة، وإنه يدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويفيض المال، ويضع الجزية، وإن الله يهلك في زمانه الملل كلها غير الإسلام، ويهلك الله المسيح الضال الأعور الكذاب، ويلقي الله الأمنة حتى يرعى الأسد مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان مع الحيات لا يضر بعضهم بعضا ) رواه الطيالسي وابن حبان .





هذا هو الدجال - لعنه الله - جعله الله فتنة لعباده، ليختبر صدق إيمانهم وقوة يقينهم، وتمسكهم بدينهم، وهي فتنة لن ينجو منها إلا من اعتصم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

التنجيم .. استخفاف بالعقل وتنكب عن الشرع



دأب البشر منذ القدم على الولع بمعرفة الحوادث المستقبلة عن الكون والإنسان ، وسلكوا في سبيل نيل هذه المعرفة طرقا شتى كالاستعانة بالجن ، وممارسة نوع من الرياضات الذهنية والبدنية ، وملاحظة حركة الطير ، وحركة الأفلاك في السماء اقتراناً وافتراقاً ، والربط بينها وبين أحوال الإنسان ، واستعملوا حساب الجمل ، وضرب الخط ، كل ذلك لنيل المعرفة بالغيب ، خوفا من نوائب الدهر ، ومصائب الحياة ، لكن لم يكن في كل ما فعلوه من غنية أو سبيل لمعرفة ما ستره الله عن البشر من غيبه سبحانه ، قال تعالى : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } (الجـن:27) ، فقطع الله عز وجل كل طريق سوى الوحي لمعرفة غيبه سبحانه.

ونحاول في هذا الموضوع تسليط الضوء على إحدى هذه الطرق التي سلكها البشر لمعرفة الغيب والإطلاع على حوادث الدهر ، وهي ما يسمى بالتنجيم ، تلك الطريقة التي يدعي أصحابها أنهم يعلمون الحوادث الأرضية ويستدلون عليها بحركة النجوم والكواكب ، واختلاف المواليد والمطالع .

وقد بين الشرع بطلان هذه الطريقة وأنها لا تؤدي إلى ما يرمونه من معرفة الغيب ، فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه ، قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة ، فلما انصرف ، أقبل على الناس ، فقال : ٍ( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب ، وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب ) متفق عليه .

قال العلماء : من قال ذلك مريداً أن النوء هو المحدث والموجد فهو كافر ، وإن قال ذلك مريداً أنه سبب لنزول المطر ، وأن منزله هو الله وحده كان كفره كفراً أصغر غير مخرج من الملة لكونه أثبت سبباً لم تثبت فاعليته شرعاً ولا قدراً .

وقد ضرب العلماء للمنجمين مثلاً يدل على إبطال دعواهم ، فقالوا : ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتباين رتبهم، فيهم الملك والسوقة ، والعالم والجاهل، والغني والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحد؟ فإن قال المنجم قبحه الله : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون مقتضى هذا أن ذلك الطالع أبطل أحكام الطوالع كلها على اختلافها ، فلا فائدة أبداً في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي ولا سعيد، وإن قال ليس لطالع من طوالعهم أثر في إغراقهم فقد أبطل ما ادعاه من علم النجوم .

وقال مسافر بن عوف لعلي بن أبي طالب : يا أمير المؤمنين! لا تسر في هذه الساعة وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولم ؟ قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت. فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم، ولا لنا من بعده ، .. فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً أو ضداً، اللهم لا طير إلا طيرك، ولا خير إلا خيرك. ثم قال للمتكلم: نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وإنما المنجم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ وبقيتَ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح لمسلم .

لقد كان موقف الشرع واضحا بينا من هؤلاء المنجمين الذين يضحكون على عقول البشر بإخبارهم بأمور يدعون أنها ستحصل لهم في مستقبل حياتهم ، ومن مكر المنجمين وحيلهم أن أخبارهم ليست لها طابع الدقة والتحديد ، وإنما يخبرون بأمور عامة ، كأن يقولوا لمن يسألهم أنت ستكون ناجحا في حياتك ، وسوف تحقق إنجازات هامة في مستقبلك ، ويبقى على سائلهم المسكين أن يتأمل حوادث النجاح في حياته ، حتى إذا نجح في دراسته ، أو تزوج ، أو صنع جهازا، قال بذا أخبرني المنجمون وصدقوا ، فانظر إلى دجل هؤلاء المنجمين ، وانظر إلى سخافة عقول من يسألهم ، نسأل الله السلامة والعافية .

والقرآن الكريم على كثرة ما ذكر عن النجوم وأحوالها ، لم يعلمنا أن من فوائد النجوم وحركة الكواكب الاستدلال بها على الحوادث الأرضية ، بل ذكر سبحانه بعضا من فوائد النجوم المتعلقة بالإنسان في عبادته لربه ، وما يتصل بحياته ، فأرشد سبحانه العباد إلى الاهتداء بالنجوم لمعرفة الاتجاهات ، قال تعالى : { وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } (النحل:16) ، وبين أن في حركة الشمس والقمر إعلام بالسنين والأيام ، قال تعالى : { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون } (يونس:5) ، وبين أيضاً أنه جعل النجوم في السماء زينة تتزين بها ، وجعلها أيضا رجوما ترجم بها الشياطين من مسترقي السمع ، قال تعالى :{ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وأعتدنا لهم عذاب السعير} (الملك:5) ، وأمر سبحانه العباد أن يتفكروا في هذا الكون العظيم بسمائه وأرضه بنجومه وكواكبه ليكتشفوا عظمة هذا الخلق ، وعظمة خالقهم سبحانه ، قال تعالى: { أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون } ( الأعراف:185) .

هذه هي فوائد النجوم بالنسبة للإنسان ، وهذه هي حال المنجمين في الكذب والدجل ، ومن العجيب أن التنجيم قد انتشر في عصرنا هذا ، وخصصت له الصحف والمجلات والقنوات أوقاتا ومساحات ، وبذل الناس في سبيل معرفة قول منجم في مستقبلهم الأموال والأوقات ، فيا لها من عقول تدعي المعرفة ، ونبذ الخرافة وهي غارقة في أوحالها ، وهذا يدل على أن الدين هو الضمان الأساسي من الخرافة والضلال ، وأن الرجل مهما بلغت مناصبه ودراساته الدنيوية فلن يكون بمنأى عن تأثير الخرافة عليه وعلى أفكاره ، بل والتحكم في سلوكه وتصرفاته ، وليس عجيبا بعد هذا أن نسمع أن رئيسا من الرؤساء أو قائداً من القادة ، قد اتخذ منجماً أو كاهنا ، يتخذ قراراته ، ويبني سياساته ، بناء على ما يخبره به المنجم والكاهن ، فتحكم المنجمون والكهنة في زمننا بمصائر الأمم والشعوب ، وقضايا السلم والحرب ، فأي حضارة هذه التي نراها ، نسأل الله السلامة والعافية .

من أشراط الساعة .. خروج المهدي المنتظر





رحلة الإسلام عبر التاريخ البشري منوطةٌ بغربتين: غربة في المبتدأ، وأخرى في المنتهى، وهي مسألةٌ من اليقينيّات العقديّة المستمدّة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريباً) رواه مسلم، لكن غربة آخر الزمان لا تمثل صفحة سوداء بالكامل ليس فيها بارقة أمل، أو لحظات نصر وتمكين، فإن آخر الزمان له مبشراته المفرحة وصفحاته المشرقة، ولعل أبرزها وأوضحها مسألة خروج المهدي آخر الزمان .

إنه الرّجل الصالح، والقائد الفذّ، صاحب العقل الراجح، والنظر الثاقب، والسيرة الحميدة، والتي لم نقف على كلّ تفاصيلها؛ لأنها غيبٌ لم نره بعد، وإن كنّا نلمس حسنها وجمالها من خلال الفضائل النبويّة التي حظي بها، ومن خلال دراسة مكوّنات الدولة التي سيسوها، ومن السياق التاريخيّ الذي يُظهر مآثره وأعماله الجليلة، ويكفيه موافقة النبي –صلى الله عليه وسلم- في اسمه واتّصاله بنسبه، وموافقته لهديه وسمته، واشتراكه مع شيءٍ من صفات خِلْقته، إنه محمد بن عبد الله، من السلالة الطاهرة التي تنتمي إلى فاطمة بنت سيد الخلق كما جاء في حديث: (المهدي من عترتي، من ولد فاطمة) رواه أبو داوود ، والعترة هم أولاد الرجل من صلبه كما ذكر العلماء.

ولعلّه لو سئل المهدي قبل استخلافه: أكان يظنّ أن يكون هو الرّجل الذي تحدّث الناس عنه منذ أيّام النبوّة إلى حين استخلافه، لكانت إجابته بالنفي، لأن صلاحه وإلهامه رشده، وتوفيقه إلى طريق الخلافة، وتهيئته لاستلام زمام الأمور، واجتماع الكلمة عليه، يكون في ليلةٍ واحدة! بنصّ الحديث الثابت في ذلك: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) رواه ابن ماجة، وابن أبي شيبة في مصنفه، وصححه الشيخ أحمد شاكر.

ولم تترك السنة لنا مجالاً واسعاً لتخيّل هيئته، فقد بينت لنا شيئاً من ملامحه ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلا ً كما مُلئت جوراً وظلماً) رواه أبو داوود والحاكم، والمقصود بأنّه منحسر الشعر عن مقدّم الرأس، أو واسع الجبهة، وكلا المعنيين مذكوران في كتب شرّاح الحديث، ويذكرون كذلك أن معنى أقنى الأنف: أنّه صاحب أنف دقيق، وهي صفاتٌ تشبه كثيراً ما هو مسطورٌ في كتب شمائل النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنّه أجلى الجبهة، أقنى الأنف.

وإذا كانت البركة منوطةٌ بالصلاح، وخلافة المهدي ستكون على منهاج النبوة: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) رواه أحمد والبزّار والطبراني، فلا عجب إذن في أن تكون أيام خلافته أيّام بركةٍ وخيرٍ ونماءٍ وزرع ورخاء، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويُعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة) رواه الحاكم وصححه الذهبي، وهكذا تكون حال الأمم حينما تحكم بالشرعة الإلهيّة المشتملة على غاية العدل والقسط.

ولعل أبرز الأحداث المذكورة في سيرة هذا الرجل العظيم، لقاءه المنتظر بأحد أولي العزم من الرسل، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، ومما هو مذكور في هذا السياق إصرار هذا النبي الكريم بتقديم المهدي إماماً للناس تكرمةً لهذه الأمة وبياناً لخاتميّة رسالتها وتأكيداً على ريادتها وقيادتها، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة:143)، وقد جاء في مسلم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة) رواهمسلم.

وليست المسألة مجرّد لقاء وصلاة، بل حتماً سيكون لهذا القائد العظيم علاقةٌ محكمة بنبي الله عيسى عليه السلام، ومن خلال هذه العلاقة بينهما ستتحقّق المكاسب العظيمة من إرساء العدل والحق، وتوسيع الرقعة الإسلاميّة، ونشر الدين الصحيح، والقضاء على الضلالات وإبطال مظاهرها، وقتال أهل الباطل وقتل أعظمهم فتنةً وكفراً، ونعني بذلك الدجّال، حيث يُباشر قتله نبي الله عيسى عليه السلام بباب لُد – وهي قرية معروفة بأرض فلسطين-.

وعن فترته الذهبية وطولها بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقوم بالخلافة نحواً من ثمان سنين، تزيد قليلاً أو تنقص، لكنّها لا تصل إلى العشر: (إن في أمتي المهدي، يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً –يعني سنوات-) رواه الترمذي وأحمد، وهذه الفترة الزمنيّة لا تعني شيئاً في أعمار الدول، خصوصاً ونحن نرى في أيّامنا المعاصرة كيف تعقّدت مسائل إدارة شؤون الدول واتّخت أشكالاً أكثر تفصيلاً عمّا كانت عليه في السابق، لنعلم بذلك أن النقلة التي سينجزها المهدي المنتظر تُعدّ وثبةً حقيقيّة وإنجازاً حضاريّاً هائلاً بكلّ المقاييس، خصوصاً وأن مدلولات الأخبار النبويّة تشير إلى عمق الهوّة التي انحدرت إليها مجتمعات ذلك الزمن، بسبب استطالة الظلم والجور والاضطهاد وتربّعه على المشهد، وانتهاج الطغيان السياسي في أرجاء المعمورة، ليأتي المهدي المنتظر فيغيّر كلّ تلك القيم الفاسدة والأعمال الباطلة، إلى حقّ وعدل وخير، كما نفهمه من حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (يخرج رجل من أهل بيتي، يملؤها –أي الأرض- قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وعُدواناً) رواه الإمام أحمد.

وبعد: فإن الاعتقاد في المهدي المنتظر وارتباطه بأشراط الساعة هي قضيّة عقديّة في غاية الوضوح عند أهل السنّة والجماعة، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث في الناس، إلا أن معتقد أهل السنّة والجماعة فيه ينتهج النظرة المتوازنة التي لا ترفعه عن قدره، أو تُلبس عليه من الأوصاف وتعلّق عليه من الآمال ما لا طاقة له به، ولكنّه ذلك الرّجل الذي اهتدى فزاده الله هدى، ووفّقه إلى القيام بالحق، ولو لم يخرج في أمّة مهيّئة للنصر ما استطاع إنجاز كلّ تلك الأمور، ومن أراد التوسّع في أخباره فعليه العودة إلى كتب العلماء الثقات الذين استفاضوا في ذكر أحواله وبيان أوصافه، وسرد الأحاديث المتعلّقة به.

الأسباب المانعة من الشفاعة



أملٌ أشبه بالأماني، يظنّ فيه البعض أن باب الشفاعة الذي فتحه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين رحمةً بهم، أنه بابٌ يدخله الجميع دون قيدٍ أو شرط، ويتصوّر فيه فئامٌ من الناس عدم وجود إطارٍ يُحدّد الصفاتٍ والشروطٍ التي يستحق بها صاحبها نيل الشفاعة، وربما جرّ هذا القصور في التصوّر بعض العصاة إلى الإسراف في المعاصي، والتساهل في المحرّمات.

وهذا ليس بصحيح، فإن ثمة أموراً تمنع صاحبها استحقاق الشفاعة يوم القيامة، وتحرمه من نيل فضلها، فلابد إذن من تسليط الضوء على تلك الموانع حتى يبقى المرء في كمال الطهارة والسلامة منها، ويمكن حصر هذه الأسباب فيما يلي:

أولاً: التلبّس بالشرك: فالشرك مانعٌ من حصول الشفاعة لصاحبها؛ ذلك أن مقتضى الشفاعة حصول الصفح والتجاوز عن المشفوع له، والله سبحانه وتعالى قد أخبر عن نفسه أنه لن يتجاوز أبداً عمّن تلبّس بالشرك وخالط الكفر فقال: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً} (النساء: 48)، والشرك محبطٌ للعمل مبطلٌ له، فمهما عمل صاحبه من أعمال فلن تُقبل منه، وستكون هباءً منثوراً: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (الزمر: 65).

وإنما ينتفع بالشفاعات الثابتة من كان على حالٍ من التقصير والزلل والمعصية، لا سيما أهل الكبائر والموبقات، فعسى الله أن يعفو عنهم ويتجاوز عنهم بشفاعة الشافعين، أما أهل الشرك وأصحاب المعتقدات الكفريّة فلن تنفعهم شفاعة أحدٍ مهما علت منزلته عند ربّه، قال الله تعالى واصفاً أهل النار: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} (المدثر: 48)، وقال سبحانه:{ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} (غافر: 18).

ثانياً: ظلم الإمام للعباد، والغلو في الدين: ويدلّ على هاتين المسألتين حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (صنفان من أمتي لن تنالهما شفاعتي: إمام ظلوم، وكل غالٍ مارق) رواه الطبراني في المعجم الكبير، وقال الهيثمي: رجاله ثقات.

ويمكن تلمّس تأثير هاتين الصفتين في الحرمان من الشفاعة بأن نقول: إن الأصل في الإمام أن يرعى حقوق رعيّته؛ لأنه المستخلف في إقامة شرع الله ومنهجه بكافّة صوره وتشريعاته، وأصل الشريعة وعمودها: إرساء قواعد العدل، ولذلك كان الإمام العامل بمقتضى العدل في رعيّته أحد السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظلّه، يوم لا ظلّ إلا ظله: إمام عادل) رواه البخاري.

ويُقال أيضاً: إن الظلم صفةٌ ذميمة لا يُجْتنى منها سوى الفساد والفتن ، والبلايا والمحن، والشرور والسيئات، وهي ظلماتٌ يوم القيامة، وما كان هلاك الأمم والقرى إلا لأجله، فإذا كان هذا حال ظلم الأخ لأخيه، فكيف إذا كان الظلم واقعاً على أمّةٍ بأسرها، وشعبٍ بأكمله؟ وكيف يستحقّ التجاوز والشفاعة من كان هذا حاله مع رعيّته؟

وتدلّ السنة النبويّة على أن الظلم منافٍ للأخوّة الإسلاميّة، كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره) رواه مسلم، والجائر من الولاة والأئمة لم يعمل بمقتضى هذه الأخوّة، فلم يستحق الشفاعة لذلك.

ولا شك أن الغلو في الدين مذموم والتشديد فيه غير محمود، لأنّه خروجٌ عن منهج الاعتدال الذي اتصفت به الشريعة الربّانية، وقد نهى الله سبحانه وتعالى وحذّر أهل الكتاب من الغلو في أي ناحية من نواحي الدين العقائدية والتشريعية فقال: {يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق} (النساء:171)، ونهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(يا أيها الناس إياكم والغلوّ في الدين؛ فإنما هلك من قبلكم بالغلوّ في الدين) رواه ابن ماجه.

ثالثاً: التكذيب بالشفاعة: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (من كذّب بالشفاعة فليس له فيها نصيب) رواه الآجري في "الشريعة"، وصحّح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح، ومثل هذا لا يُقال بالرأي، فالذين يُبطلون الشفاعة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلّم- ويُنكرون المقام المحمود الذي يبعثه الله يوم القيامة وينفونها عنه، لن تنالهم شفاعته عليه الصلاة والسلام.

رابعاً: الإحداث في الدين، وقد دلّت النصوص على أنها تمنع من ورود الحوض يوم القيامة، فلا تنفع معه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإنه سيجاء برجال من أمتي، فيُؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: {وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد، إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم، فإنك أنت العزيز الحكيم} (المائدة: 118) متفق عليه.

ومن المناسب ذكر بعض الأمور المانعة للشفاعة، لكن ليس فيها مستندٌ معتمد من حديثٍ صحيح، وهي ما جاء حول غش العرب، وفيه حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من غشّ العرب، لم يدخل في شفاعتي، ولم تنلْه مودتي)فقد رواه الترمذي وقال: "حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث حصين بن عمر الأحمسي، عن مخارق، وليس حصين عند أهل الحديث بذاك القوي"، وقد أنكر الحفّاظ أحاديث هذا الراوي، كما ذكر من أعلّ الحديث.

ويُقال في الحديث السابق: إن الغشّ مذمومٌ شرعاً، وصاحبه مرتكبٌ لكبيرةٍ من كبائر الذنوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا) رواه مسلم، وهذا التحريم إنما ثبت في النصوص على وجه العموم، أما إثبات الخصوصيّة في غشّ العرب من ناحية الحكم، وجعلها مناطاً للحرمان من الشفاعة النبويّة يوم القيامة، وسبباً للمنع منها، فهذا ما لا ينبغي إثباته إلا بالنص الصحيح.

كيفية استغلال الاجازة في طاعة الله سبحانه وتعالى



الحقيقة : عام بعد عام وكل ورقة تسقط من تقويم الأعمار إنما هي خطوة نحو دار البقاء والقرار , نعمل ونعمل إما بحق أو في سبيله فهو في مثاقيل الموازين وإما بباطل أو في سبيله فهو من وحي النفس السيئة والشياطين وكل ذلك معلوم وكل ذلك مرصود وكل ذلك معهود.

فهيا نقف مع النفس ونحاسبها قبل أن نقف موقفاً عصيباً يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى … يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات … يوم يصبح الولدان الصغار أشياباً من هول الموقف .
أحبائي …
مع بداية الإجازة الصيفية تجد كلاً يفكر كيف يقضي العطلة وكل يدور في ذهنه ما يناسب حاله كما قال الحق تبارك وتعالى { قل كل يعمل على شاكلته } فبداية العطلة تمثل للشاب أو الفتاة إشراقة يوم جديد مليء بالنشاط والحيوية والعطاء ، وهذه دعوة من أخ لكم مر بما تمرون به اليوم ويدعوكم إلى برنامج جديد تقضون به العطلة .
أولا : الرفيق : سأذكركم بخير رفيق لكم وأجل رفيق في العطلة .. والله مهما تباعد الإنسان عنه ومهما خاض في خضم الحياة إذا عاد وناداه أجابه بفرح شديد وليس ذلك فحسب بل هو يعطي وعطاؤه غير محدود وهو يحفظك في كل وقت وبالخير يجود هيا بنا يا أحبابي نقضي العطلة في رحاب الله …في معية الله …..في مرضاة الله .
وأحب أن أذكرك بشيء مهم وهو أن الوسائل لها في الشرع حكم المقاصد فمثلاً إذا أكل الإنسان لأنه جائع وفقط فهذا لا له ولا عليه وأما إن أكل بنية أن الطعام يقوي الجسم على الطاعة والصلاة فهذا له أجر .. مع أن الطعام هو نفس الطعام ولكن لأن العبادة غاية وهو جعل التقوي عليها بالطعام وسيلة فأصبحت الوسيلة هي الأخرى عبادة .
إذاً فلنتعامل مع الله بتجارة العلماء , فالنيات هي تجارة العلماء ومع إحسان النية تتحول كل الحياة إلى عبادة مع أنها هي هي نفس الحياة ونفس الأفعال ولكنها النية قد جعلت صاحبها يدخل في مقصود الآية ) قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (
أحبتي في الله… هيا بنا نأنس بالله ، هيا بنا نعيش بالله وفي الله ولله ومع الله قصة حب حقيقية نبذل له فيها مهجنا وأرواحنا وسائر حياتنا نهديه فيها حبات القلوب .
تخطيط مسيرة الصيف الهانئة :
سنقسم إن شاء الله تعالى اليوم ونحوله إلى جدول عمل نبدأ معه بأول صلاة فرضها الله على المسلم من حيث وقتها وهي صلاة الفجر وسنخصص بعض الزيادات في آخر كل وقت للفروق الطبيعية بين الشاب والفتاة في العمل وكذلك بعد وضع الجدول بإذن الله سنقدم بعض النصائح ببعض الأعمال العامة التي يمكن فعلها على بعض الفئات دون بعض….

أولاً صلاة الفجر وما بعدها :
ما أروع أن يبدأ المسلم يومه نشيطاً متفائلاً مستبشراً ببزوغ فجر جديد في حياته يلقى فيه الله تعالى محتفيا مسروراً منضماً لصفوة المحبين مصطفاً معهم في رباط روحي وقلبي ملبين نداء الحق مع نسمات الفجر … نداء المؤذن لصلاة الفجر ومن حُرم من ذلك الإحساس الطيب بالقيام لصلاة الفجر وصلاتها في جماعة فهو حقاً محروم ، وننصح إخواننا الذين حرموا من هذا الخير العميم أن يبحثوا عن أسباب الحرمان ويعالجوها فهي تتراوح من كونها معاصي يفعلها العبد فيحرم بها الخير أو كونها أسباب لم يتخذها أو لم يحسن الأخذ بها كالنوم مبكراً مستحضراً النية للتقوّي بالنوم على صلاة القيام وصلاة الفجر ، ومن الأسباب : الإكثار من الطعام قبل النوم مما يثقل الجسد عن القيام فابحث وحاول أن تعالج أسباب الحرمان حتى تكون أو تكوني من الفائزين بصلاة الفجر في وقتها وانضمامك إلى موكب الخير السائر إلى الله ) وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.(
بعد صلاة الفجر لا تنسَ أذكار الصباح فهي الزاد الطيب في بداية اليوم .
الجلوس في المسجد حتى يحين وقت الضحى بعد شروق الشمس وارتفاعها بمقدار ميل وفي هذا الوقت نقترح لك أن تجعل فيه وردك اليومي من القرآن وهو جزء على التقدير العادي وبالطبع فهذا الورد من القرآن هو زاد روحك وقلبك في الإجازة وغيرها فهو الغذاء الطبيعي السليم والأساسي للمؤمن .
بعد انصرافك من صلاة الضحى بالمسجد وقد رزقت الأجر إن شاء الله وهو كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة تعود لبيتك حتى تستريح قليلاً فإن كان وراءك عمل تقوم به في الصيف لمساعدة الأسرة أو تحقيق ذاتك فهذا خير ولمثل صاحب هذا الحال ننصح بعد صلاة الضحى بالراحة لمدة ساعة مثلا أو على قدر ما يكفل لك القيام قبل العمل بنشاط ويكفي لتناول إفطارك قبل الذهاب للعمل .
ولغير العامل بالإجازة نقول له خذ راحتك مثلا لمدة ينشط فيها الجسد ولا تطِل عن التاسعة صباحاً حتى لا تصاب بالخمول وبعد قيامك ننصح بساعتين من الاطلاع على آخر تطورات واقع المسلمين على بعض المواقع الموثوقة في ذلك ثم أخذ الزاد العلمي والثقافي المناسب من خلال عملك على الشبكة وما أفضل أن تطبع ما يستحق الطبع وتنشره بين إخوانك فتكون ساعدت في نشر الحق والخير ولك الأجر إن شاء الله … فنفضل هذا الوقت على غيره للتصفح بالشبكة ومعرفة المستجد من الأمور والمعارف حتى موعد صلاة الظهر
التهجير لصلاة الظهر وهو التجهز والذهاب مبكراً للمسجد والجلوس في انتظار الصلاة فأنت في صلاة ما انتظرت الصلاة .
بالنسبة للفتاة الفاضلة فنرجو منها أن تقضي هذه الفترة بين التصفح وبين مساعدة والدتها في شئون المنزل ونفضل لها البدء بمساعدة الوالدة ثم التصفح لأن سنة التهجير إلى المسجد هي للرجال الذاهبين للمسجد أما أنت فصلاتك في بيتك أفضل وبالتالي فسيتوفر لك وقت كافٍ قبل الظهر للتصفح فنقترح بتقسيم الوقت مما بعد التاسعة إلى الظهر مثلا إذا قدرناه بأربع ساعات فتساعد الوالدة في البداية بما مقداره ساعتين وفي الغالب يقل عن ذلك وتجعل الباقي حتى صلاة الظهر للتصفح … واعلمي أن مساعدتك لوالدتك فيه خير عظيم ) وبالوالدين إحسانا (
ثانياً : صلاة الظهر وما بعدها :
بعد أداء صلاة الظهر في جماعة يحين وقت القراءة الجادة لأحد فرائض الأعيان من العلوم كعلم العقيدة وكذا المهم من علم الفقه كالطهارة والصلاة والصوم وغيرها فعلى الأقل نخصص بعد الظهر ساعتين للاطلاع أو سماع الأشرطة المنهجية في ذلك وننصح في هذا الصدد ببعض الكتب للشاب المبتدئ الحريص على أداء ما افترضه الله عليه فمثلاً في العقيدة نرشح لك كتاب “القول المفيد على كتاب التوحيد ” للشيخ محمد بن صالح العثيمين عليه رحمة الله وهو كتاب نفيس وسهل التناول فلو قدرنا أنك ستقرأ بتفحص كل يوم عشرين صفحة لانتهى منك الكتاب في أقل من شهرين إن شاء الله .
وبعد الانتهاء منه نرشح لك كتاباً سهلاً في الفقه ككتاب فقه السنة للشيخ سيد سابق مع تصحيح الشيخ الألباني للكتاب وهو المعروف بتمام المنة فتقرأ من كتاب فقه السنة وتطلع على ما ضعف وصح من أحاديثه من كتاب تمام المنة أما إن كان مستواك العلمي أكبر قليلاً من ذلك فعليك في العقيدة بكتاب العقيدة الواسطية لابن عثيمين وفي الفقه بكتاب نيل الأوطار للشوكاني مثلا ..
وقت تناول وجبة الغداء والأنس بالوالدين والتقرب منهما في وقت اجتماع العائلة لتناول وجبة الغداء وإن لم يكن لك إلا أحدهما فهو باب إلى الجنة وإن لم يكونا فالمسئول عنك هو في مقام الوالد ، ووقت الغداء هو وقت الاجتماع دائما ويفضل فيه تبادل الأحاديث الودية وهو مجال خصب للدعوة سواء لدعوة الإخوة أو الأخوات الصغار أو الكبار إلى الخير أو حتى دعوة الوالدين نفسيهما .
وننصح هنا بشيء هام وهو نوعية الطعام ولا أقصد هنا الطعم أو الثمن وإنما أقصد الاهتمام بما يفيد بناء الشاب أو الشابة دون الإفراط في عوامل السمنة وكذا مع اعتبار عدم إضرار الجسم بما لا يفيده .

الراحة بعض الوقت ثم الاستعداد لصلاة العصر .
ثالثاً: صلاة العصر وما بعدها :
الذهاب للمسجد لأداء صلاة العصر في جماعة والجلوس بعد الصلاة لأذكار المساء .
بعد ذلك يفضل للشاب أو الفتاة تخصيص هذا الوقت للاستفادة الحركية للدعوة بمعنى تبادل الزيارات للأحباب بقصد الدعوة أو التباحث أو الأخذ بأيديهم إلى طريق الخير ، ولو خصصنا هذا الوقت للدعوة لحققنا من خلال الإجازة عملاً عظيما ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم . وتخصيص هذا الوقت حتى نغير عادة الناس من أن الزيارات تبدأ في الصيف بعد العشاء ثم تكون النتيجة عدم القيام لصلاة الفجر . وننصح بالتزود في هذه الزيارات ببعض النصائح من خلال حفظ بعض النصوص الدالة على ما يحتاجه المزور من نصائح ( كل حسب حاجته ) وكذا عند الاستطاعة التزود ببعض الأشرطة أو الكتيبات حتى ولو كان الصديق ملتزما فالنبي صلى الله عليه وسلم قال ) تهادوا تحابوا (
كما ننصح بأمر ضروري وهو ألا تقتصر الزيارات كما يحدث غالباً على أصدقاء المسجد أو الالتزام وإنما نرجو أن نخرج من الإجازة بأصدقاء جدد مثلاً من الجيران أو صداقات الدراسة القديمة أو غير ذلك ممن يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم… واجعل سلاحك أو في ذلك الصبر والأناة .
رابعاً:صلاة المغرب وما بعدها :
يغلب على العادة أن تقام المحاضرات الدينية فيما بعد صلاة المغرب فننصح باستثمار هذا الوقت في حضور محاضرات أهل العلم العلم الموثوقين .. وفي حالة التعذر أو البعد عن أماكن العلماء فننصح بزيارة من هم أكبر منا وأعلم من إخواننا حتى نستفيد من تجاربهم وخبراتهم ونسألهم عما لا نعلم فقد نجد عندهم ما يشفي , فكما خصصنا ما بعد العصر لدعوة الآخرين نخص ما بعد المغرب بالاهتمام بالتزود من العلماء أو الأكبر منا والأكثر خبرة من إخواننا .
وكذلك الأخوات الفضليات نفس الشيء , فإن تيسر حضور المحاضرات وإلا فاللجوء إلى من هم أكبر منكن خبرة وأكثر علماً من من أخواتكن ، وننصح خاصة في المجال النسائي بالتريث في اختيار من نأخذ منهن النصيحة فلا تأخذنها إلا ممن هن لذلك أهل ، وإن كان في أخذ العلم من الأشرطة الصوتية بالنسبة لكن أفضل من الخروج إلى المساجد القريبة والبعيدة وأحفظ لكن …
خامساً : صلاة العشاء وما بعدها :
حضور صلاة العشاء في الجماعة ثم الذهاب إلى المنزل مبكراً فلا سمر بعد العشاء . حتى نكون صرحاء مع أنفسنا فمنا من تعود قيام الليل الذي هو شرف المؤمن ومنا من لم يتعود عليه ولكنه يشتاق لأن يكون يكون ممن يقومونه ، لذا فمن تعود على قيام الليل ننصحه بالنوم مبكراً والقيام قبل صلاة الفجر بوقت كاف لأداء صلاة القيام . أما من لم يتعود على قيام الليل ويحس أنه لن بقوم حتى إذا نام مبكراً ويغلب على ظنه ذلك أو أنه جرب ولم يستطع فنقول له لا تحرم نفسك من الخير وقم بعد صلاة العشاء في منزلك فهذا الوقت أول وقت القيام وحاول أن تجاهد نفسك فابدأ مثلاً بثمان ركعات كل ركعتين منفصلتين واقرأ فيهن بقصار السور ثم تدرج بنفسك حتى تكثر من القراءة شيئاً فشيئاً ولا تحمل نفسك فوق طاقتها حتى تداوم لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ومع التدرج ستجد الخير إن شاء الله فهذا وعد الله ) والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) … فمع الوقت ستجد في نفسك القوة على الصلاة بجزء كامل في ثمانية الركعات ومع الوقت ستجد في نفسك الزيادة إن شاء الله … وبإذن الله ستوفق أيضاً إلى القيام في الثلث الأخير من الليل الذي هو وقت التنزل الإلهي… والله الموفق
وأخيراً … نصائح عامة:
هذه النصائح جعلتها في نهاية هذا البرنامج العملي للإجازة لأنها حسب القدرة والاستطاعة وهي كما يلي :
الذهاب لأداء العمرة لمن يستطيع الاستطاعة المادية للذهاب من خارج بلاد الحرمين … وأما إخواننا من جيران الحرم فننصحهم بالذهاب لأداء العمرة والإكثار من ذلك ، فالأثر الصحيح دل على أن الحج للحج والعمرة إلى العمرة ينفيان الذنوب والفقر كما ينفي الكير خبث الحديد ويالها من أحاسيس ومشاعر فياضة يجدها المسلم في جوار بيت الله الحرام أسأله تعالى أن يرزقني وإياكم المتابعة بين الحج والعمرة .
الدخول في المراكز الصيفية ذات النشاط المتكامل والمتوفرة في بعض الدول العربية وتكون ذات صبغة إسلامية يتم فيها تنمية الشباب وهواياتهم وتوجيه تطلعاتهم … ولكن لو كانت هذه المراكز في دولة تشجع الاختلاط وليست ذات صبغة إسلامية فلا نشجع عليه بل ننصح بعدم الاشتراك فيها لما ذلك من الفتنة والضرر .
كذا بالنسبة للأخوات الفضليات يمكن استثمار بعض الوقت في الالتحاق بمراكز تدريب الفتيات على أعمال المنزل كالتدبير المنزلي والذي يشمل على أعمال الطبخ أو الخياطة وغيره من المهارات المطلوبة في الأخت المسلمة الفاضلة التي تعلم أن أفضل جهادها في حسن التبعل للزوج وإنشاء الجيل الفاضل جيل صلاح الدين وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب .
وأخيرا إن أحسنت فمن الله وإن أسأت فمني ومن الشيطان
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

الاثنين، 13 يناير 2014

مقاصد سورة الكهف



المشهور بين العلماء أن سورة الكهف مكية كلها، وأنها من السور التي نزلت جملة ، وقد روي ذلك أيضاً عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. 

وعدد آياتها (110) عشر ومائة آية. وسبب تسميتها بسورة (الكهف) لما تضمنته من حديث عن أصحاب الكهف، الذين فروا بدينهم من ظلم مَلِكهم. 

فضل السورة
جاء في فضل سورة الكهف جملة من الأحاديث نذكر منها ما يلي: 

ما رواه الشيخان عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه حصان مربوط بشَطَنين -الشَّطَن: الحبل- فتغشته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: (تلك السكينة تنـزلت بالقرآن). 

ما رواه مسلم عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجال). وفي رواية أبي داود: (عُصِمَ من فتنة الدجال). وفي رواية الترمذي: (من قرأ ثلاث آيات من أول الكهف عُصِمَ من فتنة الدجال). وفي رواية النسائي في "المنتقى من عمل اليوم والليلة" (من قرأ عشر آيات من الكهف عُصم من فتنة الدجال). 

وعند مسلم من حدي النواس بن سمعان رضي الله عنه، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، إلى أن قال: (فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف). وفي روايةأبي داود: (فإنها جواركم من فتنته). 

وروى النسائي في "السنن الكبرى" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من قرأ سورة الكهف كما أنزلت، كانت له نوراً من مقامه إلى مكة، ومن قرأ بعشر آيات من آخرها، فخرج الدجال لم يسلط عليه). وفي رواية البيهقي في "السنن الصغرى": (من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين). وفي رواية الدارمي: (من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق). 

وفي "مسند" الإمام أحمد عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ أول سورة الكهف وآخرها، كانت له نوراً من قدمه إلى رأسه، ومن قرأها كلها كانت له نوراً ما بين السماء إلى الأرض). 

وروى الدارمي عن محمد بن كثير عن زر بن حُبيش، قال: (من قرأ آخر سورة الكهف لساعة يريد يقوم من الليل، قامها). قال عبدة: فجربناه، فوجدناه كذلك. قال ابن كثير: وقد جربناه -أيضاً- في السرايا غير مرة، فأقوم في الساعة التي أريد.

مقاصد السورة
قبل الحديث عن المقاصد الرئيسة التي تضمنتها هذه السورة، نمهد لذلك بنقطتين اثنتين:

الأولى: بدأت السورة بوصف الكتاب بأنه قيم؛ لكونه يقيم الحق، ويُبطل الباطل، {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا} (الكهف:1-2). 

الثانية: القصص هو العنصر الغالب في هذه السورة؛ ففي أولها تجيء قصة أصحاب الكهف؛ تلك القصة التي يتجلى فيها صدق الإيمان، وقوة العقيدة، والإعراض عن كل ما ينافيها إعراضاً عمليًّا صارماً، لا تردد فيه ولا مواربة، فتية رأوا قومهم في الضلال يعمهون، وفي ظلمات الشرك يتخبطون، لا حجة لهم ولا سلطان على ما يزعمون، وأحسوا في أنفسهم غيرة على الحق، لم يستطيعوا معها أن يبقوا في هذه البيئة الضالة، فتركوا أوطانهم، واعتزلوا قومهم، وآثروا آخرتهم على دنياهم. 

وبعدها قصة أصحاب الجنتين، ثم إشارة إلى قصة آدم و إبليس . وفي وسطها تجيء قصةموسى مع العبد الصالح. وفي نهايتها قصة ذي القرنين. وتلتقي هذا القصص حول فكرة أساسية للقرآن، هي إثبات أن البعث حق، وأن المؤمن يكافأ بحُسن الجزاء، وأن الكافر يلقى جزاء عنته وكفره في الدنيا والآخرة. وتضمنت هذه القصص دلالة على البعث، وضرب المثل للحياة الدنيا، والحشر، ونفخ الصور، وما يكون يوم البعث والنشور. 

ونستطيع أن نجمل مقاصد هذه السورة وفق التالي: 

- بدأت السورة بقوله تعالى: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا} (الكهف:1-3)، وختمت بقوله سبحانه: {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف:110)، وهي تتحدث عن الدار الآخرة أيضاً، وعمن يرجو لقاء ربه، وما يجب عليه أثراً لهذا الرجاء والإيمان من عمل صالح، وتوحيد لله لا يخالطه شرك. 

وهكذا يتلاقى أول السورة وآخرها: أولها يتحدث عن الآخرة بطريق التقرير لها، وبيان مهمة القرآن في إثبات ما يكون فيها من الجزاء؛ إنذاراً وتبشيراً، وآخرها يتحدث عن هذه الحقيقة التي تركزت وتقررت ويحاكم الناس إليها إنها حقيقة الإيمان بالله والمقرون بالعمل الصالح. 

ويلاحظ هنا أن الآيات الأُوَل من السورة تحدثت عن أمر الذين {قالوا اتخذ الله ولدا} (الكهف:4)، من إنذارهم، وبيان كذبهم؛ وذلك هو قول الذين يشركون بالله، ويعتقدون ما ينافي وحدانيته وتنزيهه، وأن آية الختام قررت {أنما إلهكم إله واحد} وأن على من يؤمن به، ويرجو لقاء ربه ألا يشرك بعبادته أحداً، فتطابق أول السورة وآخرها في إثبات وحدانية الله، وتنزيهه سبحانه، كما تطابقا في أمر البعث والدار الآخرة. 

- وما بين بدء السورة وختامها تكرر الحديث عن أمر البعث؛ فجاء في أثناء قصة أصحاب الكهف، التي ساقها سبحانه حقيقة من حقائق الوجود؛ كدليل على قدرته، قولَه سبحانه: {وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها} (الكهف:21)، وجاء الحديث عن البعث مرة ثانية في هذه السورة حين قررت أن الحق من الله، وأن كلُّ امرئ مخير بين الإيمان أو الكفر، قال سبحانه: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} (الكهف:29)، فهناك دار أخرى غير هذه الدار، يحاسب فيها كل امرئ بما {قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا} (النبأ:40). 

- وجاء الحديث عن البعث في سياق المثل الذي ضربه سبحانه عن صاحب الجنتين وزميله، وما كان من إنكاره قدرة الله، وشكه في الساعة ويوم الحساب، وذلك قوله: {وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} (الكهف:36). 

- وجاء الحديث عن البعث في المثل الذي ضربه سبحانه للحياة الدنيا، {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح} (الكهف:45)، وقد عقب سبحانه على هذا المثل بذكر تسيير الجبال، وبروز الأرض، وشمول الحشر، ووضع الكتاب، وإشفاق المجرمين مما هم فيه، وقولهم: {يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا} (الكهف:49). 

- وفي سياق الحديث عن قصة آدم وإبليس، يحذر سبحانه أبناء آدم أن يتخذوا الشيطان وذريته أولياء من دونه، ثم يذكر سبحانه لهم أمراً من أمور الآخرة، حيث ينادي الشركاء فلا يجيبون، ويُستجار بهم فلا يجيرون، وتبرز الجحيم، فيراها المجرمون {ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا} (الكهف:53). وفي هذا الأسلوب جَمْعٌ بين بداية الخلق ونهايته، ووَضْعٌ لقضية الخلق والبعث مقترنتين بين يدي العقل؛ ليدرك الإنسان أنه منذ أول نشأته هدف لعدو مبين، يحاول إضلاله، وثنيه عن الطريق المستقيم، وأن هذا العدو المخاتل سيكون أمره يوم الجزاء كسائر الشركاء، يزينون للناس الكفر والعصيان ما داموا في الدنيا، ثم إذا كان يوم الحساب أعلنوا براءتهم ممن اتبعوهم.

- وفي سياق الحديث عن قصة موسى والعبد الصالح، يذكر سبحانه العديد من الأدلة على تصريفه للكون على سنن، منها ما هو معروف، ومنها ما هو خفي. فإذا آمن الناس بها، لم يعد ثمة مجال للعجب من أمر الساعة، فما هي إلا تغيير يحدثه خالق الكون ومالك أمره، فإذا السنن المعروفة تَحُلُّ مكانها سنن أخرى، فمن قدر على إنشاء السنن بداية، قادر على تغييرها نهاية. 

- وتضمنت السورة حديثاً عن ذي القرنين، وهو عبد من عباد الله، مكَّن الله له في الأرض، وآتاه من كل شيء سبباً، وقد لجأ إليه قوم؛ ليحول بينهم وبين المفسدين، فأنجدهم وأعانهم، وجعل الله عمله في ذلك رحمة للناس، يبقى ما بقيت هذه الحياة، فإذا جاء وعد الآخرة انتهى كل شيء في هذه الحياة، وأصبحت الحياة دكًّا، وأضحى الناس مضطربين، يموج بعضهم في بعض، ثم ينفخ في الصور فيقوم الناس لرب العالمين، وتُعْرَض جهنم يومئذ للكافرين، ويلقى كل إنسان جزاء عمله، وينال مصيره. وهكذا نجد قصة ذي القرنين قد انتهت إلى تقرير أمر البعث والآخرة.

- وتأخذ السورة في خاتمتها في تهديد الكافرين، الذين اتخذوا من دون الله أولياء، وتبين ما أعد لهم {أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا} (الكهف:102). وتوازن هؤلاء جميعاً بالذين آمنوا وعملوا الصالحات وما أعد لهم، {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا * خالدين فيها لا يبغون عنها حولا} (الكهف:107-108)، ويأتي ختامها بعد إثبات القدرة والعظمة لله، وأن كلماته سبحانه لا تنفد، فتذكر رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها عن وحي من الخالق القادر الواحد، وتتوجه بعد ذلك إلى الناس كافة بصيغة من صيغ العموم، فتقول: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} (الكهف:110). 

نخلص مما تقدم، أن المقاصد الرئيسة التي قصدت هذه السورة إلى تثبيتها وتأكيدها، تتمثل في ثلاثة مقاصد:

أولها: أن الكتاب هو حق مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. 

ثانيها: بيان وحدانية الله سبحانه، والتنديد بالذين يتخذون من دونه أولياء. 

ثالثها: قضية البعث والنشور واليوم الآخر.

ويكاد يكون المقصد الأخير القضية المركزية التي أبرزتها هذه السورة؛ وذلك من خلال القصص التي قصتها علينا.