إنه الرّجل الصالح، والقائد الفذّ، صاحب العقل الراجح، والنظر الثاقب، والسيرة الحميدة، والتي لم نقف على كلّ تفاصيلها؛ لأنها غيبٌ لم نره بعد، وإن كنّا نلمس حسنها وجمالها من خلال الفضائل النبويّة التي حظي بها، ومن خلال دراسة مكوّنات الدولة التي سيسوها، ومن السياق التاريخيّ الذي يُظهر مآثره وأعماله الجليلة، ويكفيه موافقة النبي –صلى الله عليه وسلم- في اسمه واتّصاله بنسبه، وموافقته لهديه وسمته، واشتراكه مع شيءٍ من صفات خِلْقته، إنه محمد بن عبد الله، من السلالة الطاهرة التي تنتمي إلى فاطمة بنت سيد الخلق كما جاء في حديث: (المهدي من عترتي، من ولد فاطمة) رواه أبو داوود ، والعترة هم أولاد الرجل من صلبه كما ذكر العلماء.
ولعلّه لو سئل المهدي قبل استخلافه: أكان يظنّ أن يكون هو الرّجل الذي تحدّث الناس عنه منذ أيّام النبوّة إلى حين استخلافه، لكانت إجابته بالنفي، لأن صلاحه وإلهامه رشده، وتوفيقه إلى طريق الخلافة، وتهيئته لاستلام زمام الأمور، واجتماع الكلمة عليه، يكون في ليلةٍ واحدة! بنصّ الحديث الثابت في ذلك: (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) رواه ابن ماجة، وابن أبي شيبة في مصنفه، وصححه الشيخ أحمد شاكر.
ولم تترك السنة لنا مجالاً واسعاً لتخيّل هيئته، فقد بينت لنا شيئاً من ملامحه ، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال : (المهدي مني، أجلى الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطاً وعدلا ً كما مُلئت جوراً وظلماً) رواه أبو داوود والحاكم، والمقصود بأنّه منحسر الشعر عن مقدّم الرأس، أو واسع الجبهة، وكلا المعنيين مذكوران في كتب شرّاح الحديث، ويذكرون كذلك أن معنى أقنى الأنف: أنّه صاحب أنف دقيق، وهي صفاتٌ تشبه كثيراً ما هو مسطورٌ في كتب شمائل النبي –صلى الله عليه وسلم- بأنّه أجلى الجبهة، أقنى الأنف.
وإذا كانت البركة منوطةٌ بالصلاح، وخلافة المهدي ستكون على منهاج النبوة: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) رواه أحمد والبزّار والطبراني، فلا عجب إذن في أن تكون أيام خلافته أيّام بركةٍ وخيرٍ ونماءٍ وزرع ورخاء، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (يخرج في آخر أمتي المهدي، يسقيه الله الغيث، وتخرج الأرض نباتها، ويُعطى المال صحاحاً، وتكثر الماشية، وتعظم الأمة) رواه الحاكم وصححه الذهبي، وهكذا تكون حال الأمم حينما تحكم بالشرعة الإلهيّة المشتملة على غاية العدل والقسط.
ولعل أبرز الأحداث المذكورة في سيرة هذا الرجل العظيم، لقاءه المنتظر بأحد أولي العزم من الرسل، وهو عيسى بن مريم عليه السلام، ومما هو مذكور في هذا السياق إصرار هذا النبي الكريم بتقديم المهدي إماماً للناس تكرمةً لهذه الأمة وبياناً لخاتميّة رسالتها وتأكيداً على ريادتها وقيادتها، يحكمون على الناس من سائر أهل الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم: { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}(البقرة:143)، وقد جاء في مسلم قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى بن مريم عليه السلام فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء، تكرمة الله هذه الأمة) رواهمسلم.
وليست المسألة مجرّد لقاء وصلاة، بل حتماً سيكون لهذا القائد العظيم علاقةٌ محكمة بنبي الله عيسى عليه السلام، ومن خلال هذه العلاقة بينهما ستتحقّق المكاسب العظيمة من إرساء العدل والحق، وتوسيع الرقعة الإسلاميّة، ونشر الدين الصحيح، والقضاء على الضلالات وإبطال مظاهرها، وقتال أهل الباطل وقتل أعظمهم فتنةً وكفراً، ونعني بذلك الدجّال، حيث يُباشر قتله نبي الله عيسى عليه السلام بباب لُد – وهي قرية معروفة بأرض فلسطين-.
وعن فترته الذهبية وطولها بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقوم بالخلافة نحواً من ثمان سنين، تزيد قليلاً أو تنقص، لكنّها لا تصل إلى العشر: (إن في أمتي المهدي، يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً –يعني سنوات-) رواه الترمذي وأحمد، وهذه الفترة الزمنيّة لا تعني شيئاً في أعمار الدول، خصوصاً ونحن نرى في أيّامنا المعاصرة كيف تعقّدت مسائل إدارة شؤون الدول واتّخت أشكالاً أكثر تفصيلاً عمّا كانت عليه في السابق، لنعلم بذلك أن النقلة التي سينجزها المهدي المنتظر تُعدّ وثبةً حقيقيّة وإنجازاً حضاريّاً هائلاً بكلّ المقاييس، خصوصاً وأن مدلولات الأخبار النبويّة تشير إلى عمق الهوّة التي انحدرت إليها مجتمعات ذلك الزمن، بسبب استطالة الظلم والجور والاضطهاد وتربّعه على المشهد، وانتهاج الطغيان السياسي في أرجاء المعمورة، ليأتي المهدي المنتظر فيغيّر كلّ تلك القيم الفاسدة والأعمال الباطلة، إلى حقّ وعدل وخير، كما نفهمه من حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-: (يخرج رجل من أهل بيتي، يملؤها –أي الأرض- قسطاً وعدلاً، كما مُلئت ظلماً وعُدواناً) رواه الإمام أحمد.
وبعد: فإن الاعتقاد في المهدي المنتظر وارتباطه بأشراط الساعة هي قضيّة عقديّة في غاية الوضوح عند أهل السنّة والجماعة، ولو لم يبق من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يُبعث في الناس، إلا أن معتقد أهل السنّة والجماعة فيه ينتهج النظرة المتوازنة التي لا ترفعه عن قدره، أو تُلبس عليه من الأوصاف وتعلّق عليه من الآمال ما لا طاقة له به، ولكنّه ذلك الرّجل الذي اهتدى فزاده الله هدى، ووفّقه إلى القيام بالحق، ولو لم يخرج في أمّة مهيّئة للنصر ما استطاع إنجاز كلّ تلك الأمور، ومن أراد التوسّع في أخباره فعليه العودة إلى كتب العلماء الثقات الذين استفاضوا في ذكر أحواله وبيان أوصافه، وسرد الأحاديث المتعلّقة به.
0 التعليقات:
إرسال تعليق